مازالت الرواية هى بمثابة الملكة المتوجة فى عالم السينما، وكثيرا ما كانت الروايات سببا فى نجاح أعمال وهذا ما اراه عند اختيار رواية الكاتبة شولاستيك موكاسونجا التى صدرت فى رواندا عام 2012 بعنوان «Notre-Dame du Nil» والتى حولت الى فيلم «سيدة النيل».. فمن منا لا يذكر المذابح التى سببتها الحرب الأهلية برواندا وعجت بها القنوات التليفزيونية حتى مطالع سنة 1994، حيث تناحرت قبيلتا الهوتو، التى تمثل الأكثرية على المستوى الديموجرافى، والتوتسى، التى تعتبر أقلية مقارنة بالقبيلة الأولى، وقام الهوتو بإبادة جماعية فى حق التوتسي؛ إذ تشير الإحصائيات إلى أنه فى غضون ثلاثة أشهر فقط، قتل ما يناهز 800 ألف رواندى بسبب تناحر القبيلتين، بالإضافة إلى حالات الاغتصاب التى قدرت بعشرات الآلاف، لتعرف البلاد بعد نهاية سنة 1994 تحولات جذرية...الاقتراب من اسباب تلك المأساة قدمها الأديب والمخرج الأفغانى عتيق رحيمى مخرج فيلم «سيدة النيل» الفرنسى البلجيكى الرواندى المشترك، وهو أحد الافلام الهامة التى عرضها مهرجان الجونة فى دورته الثالثة؛ وهو الفيلم الذى ينتقى أحداثاً من رواية للكاتبة الرواندية سكولاستيك موكاسونجا، حيث تدور أحداثه حول مدرسة رواندية مرموقة تشمل خليطا عرقيا من البنات، أغلبهم من قبيلة الهوتو مقابل أقلية من قبيلة التوتسى، لكن تبدأ الاختلافات العنصرية الكامنة فى النفوس. الفيلم لا يتعلق بالتحديد بالإبادة الجماعية فى رواندا عام 1994، بل كيف أن الانقسام الطبقى والاستعمار والتفاوت الاقتصادى قد خلقا نوعا من الاستياء والتحامل اللذين جعلا من الإبادة الجماعية أمرا ممكنا. باستخدام مدرسة رواندية كاثوليكية داخلية للبنات جميعها كنموذج مصغر لها، تحدد كيفية زرع بذور الكراهية العرقية ورعايتها وتشجيعها على الازدهار. ومع ذلك، فإن أى تعديل فى كتاب موكاسونجا يحمل وعدًا بأن يكون ذلك الفيلم الكبير الذى طال انتظاره حول الصراع العرقى فى البلاد وكيف انفجرت فى حمام دموى تاريخى شهد فيه أعضاء من الغالبية الهوتو فى رواندا يذبحون 800 ألف من مواطنيهم، معظمهم من أفراد أقلية التوتسى، فى ثلاثة أشهر فقط. تدور أحداث الفيلم فى مدرسة للفتيات تقع على قمة تل، بالقرب من مصدر نهر النيل. تم تدور القصة خلال حكم الهوتو. معظم الطلاب هم من بنات المسئولين الحكوميين البارزين. وتحتوى المدرسة على طلاب التوتسى بنسبة 10٪ من الطلاب. الأزمة الحقيقية يفجرها الفيلم من خلال طالبة الهوتو جلوريوسا التى أضرت بطريق الخطأ بتمثال العذراء أثناء محاولتها إزالة أنف يُعتبر شبيها بالتوتسى، فى إشارة إلى فكرة البصق على وجهه بقطع أنفه. والتى تخترع قصة بشجاعة صد هجوم من قبل عصابة التوتسى، مما دفع الجيش إلى التدخل لحماية الطلاب. مع مآثرها الشجاعة المزعومة فى تفجير عداء جلوريوسا فى الرغبة فى تطهير عرقى كامل للمدرسة ويتم اتهام طالبات التوتسى لتبدأ المذبحة فى المدرسة؛ ولكن لا يتم تصويرها مباشرة ويتم سردها. إذا كانت «سيدة النيل» ليست فى نهاية المطاف هى الرواية النهائية للإبادة الجماعية، فهى شىء ذو قيمة متساوية؛ مقدمة المأساة وخاصة أن موكاسونجا، فقدت 27 من أفراد أسرتها، بما فى ذلك والدتها، فى الإبادة الجماعية لذلك فمدرسة رواندية تشبه إلى حد كبير تلك التى صورت فى روايتها. وفى تأليف فيلمه، أما المخرج وكاتب السيناريو عتيق رحيمى فيعود بنا مباشرة فى منتصف عام 1973، ويتركنا لنتعرف على الأشياء. الفتيات، فى بلوزاتهم البيضاء المتطابقة وبنطلوناتهم الرمادية، هن فى الغالب من أسر هوتو الغنية. وعلى الرغم من السماح لبعض التوتسى بالالتحاق بالمدرسة، مما يزعج بعض فتيات الهوتو. تُعتبر المدرسة مؤسسة رائدة من «المسيحيين الجيدين» حيث يتم إعداد الفتيات ليصبحن «النخبة النسائية فى البلاد». وتشمل مهامهن زراعة الخضراوات واستقامة الأرشيف وتنظيف تمثال السيدة العذراء مريم الموجود على تل يطل على النهر، ونجد أن السيناريو غطى أكبر قدر ممكن من الخلفية الاجتماعية والثقافية والتاريخية لهذا العالم. بل إنه يقدم الازدواجية فى عقلية المدرسة بالمعالجة القاسية للفتيات الحوامل غير المتزوجات، والاعتماد المستمر على الأطباء الساحرات الى حد أن تفقد التلميذة حياتها. الرائع بالفيلم هو طرحه شخصية (Fontenaille) الذى يعيش فى مزرعة محلية، ويكرس نفسه لضمان استعادة التوتسى لكرامتهم فى الاعتقاد بأنهم من نسل الأرستقراطيين من الفراعنة السود. فى حين أن الدوافع غير الجنسية لهذه الشخصية المرسومة بشكل غريب لا يمكن تصديقها أبدًا، وخاصة عندما يصر على أن اهتمامه الوحيد بطالبة التوتسى فيرونيكا هو أن يرسمها!. رحيمى تمكن بشكل رائع من إدارة ممثلاته، وكثير منهن من غير المحترفات، واستطاع السيناريست هيرفى دى لوز صاحب افلام (عازف البيانو و«الصبر الصالح») باقتدار تقليص مشاهد الدماء فى المدرسة، ولكن مع ذلك أقنع المشاهد بهذا القدر الهائل من العنف والاضطهاد الذى اصاب التوتسى، وساعده على ذلك إبداع المصور السينمائى تييرى أربوجاست، الذى نقل بحيوية بالغة واقتدار تفاصيل التأثر البيئى بما يحدث، وأشعر المشاهد أنه يكاد يلمس الأوراق على الأشجار. وخاصة عندما تتوقف القصة مؤقتًا للسماح لمجموعة من الفتيات بارتداء ثيابهن البيضاء والرقص تحت السماء الرمادية الفولاذية، فإنها ليست مجرد لحظة لالتقاط الأنفاس، بل ليجعلنا نستشعر عمق المأساة القادمة، والتى حولت أرض خضراء جميلة الى موقع لأكبر مذابح جماعية فى التاريخ الحديث. ومن المعروف أن المخرج عتيق رحيمى كاتب أفغانى يكتب باللغتين الفارسية والفرنسية كما هو مخرج أفلام، من أسرة ليبرالية، وبعد الاجتياح السوفيتى لأفغانستان، وانهيار النظام السياسى غادر إلى فرنسا، حيث أتم دراسته وحصل على الدكتوراه فى الاتصالات البصرية، وفى عام 2008 حاز على جائزة جنكور، الجائزة الفرنسية الأدبية الأبرز، عن روايته «حجر الصبر» وجائزة الأدب الفارسى فى إيران فى 2010 عن روايته الأرض والرم. وفى الحقيقة أن رحيمى يرى أن تجربته فى فرنسا ليست هى الشىء الذى بدّل أشياء في تكوينه الفنى، وإنما تجربته فى الهند وهو فى السادسة عشرة من عمرى. عندما زر الهند حيث كان يعيش والده وبقى فيها سنة تبدلت خلالها حياته رأساً على عقب. هناك أعاد اكتشاف نفسه. ومن البيئة المسلمة التى نشأت فيها تعرّف إلى ثقافة أخرى. فأدهشته الثقافة البوذية والحضارة الهندية فى شكل عام. هناك قرر ألا يسمح لأحد بأن يُعامله كمجرد منتج سياسى أو دينى أو قبلى وهذا ما يجعل معالجته لرواية الكاتبة شولاستيك موكاسونجا والتى حولت الى فيلم «سيدة النيل» ذات أبعاد إنسانية.