ليست هذه المرة الأولي التي أزور فيها مدينة إسطنبول التركية، لكنها المرة الأولي في شهر رمضان المعظم.. المدينة ذات الطابع الإسلامي العريق، لها نكهة خاصة جداً في شهر الصيام، رغم طول عدد ساعات الإمساك عن الطعام والشراب.. ورغم علمانية المدينة وشعور المرء لأول مرة أن تصرفات البشر وخاصة النساء العاريات الكاسيات، إلا أن المعيشة داخل شوارع المدينة، تبعد هاجس أن كل الناس لا يعرفون شيئاً عن الشهر الفضيل.. بمجرد الاحتكاك المباشر مع الناس خاصة الأتراك، تجد الجميع يتمسك بفضائل رمضان والحرص علي الصوم والصلاة، والطاعة لله بشكل رائع وجميل، وتبين أن غير الملتزمين برمضان هم السياح القادمون إلي المدينة للسياحة وتفقد المعالم الأثرية والتي يغلب عليها الطابع العثماني.. في صوفيا وأكراي والفاتح عشت عبق التاريخ العثماني وأمجاد الدولة العثمانية التي حكمت العالم أجمع لعدة قرون، وفي رحاب مسجد السلطان أحمد ومدرسة أغاخان الملحقة به، دار في ذهني تاريخ الدولة العثمانية وكيف كان سلاطين الدولة يحكمون الدنيا بأسرها، وفي داخل ساحة المسجد التاريخي ذات الفن المعماري الدقيق تجمع البشر من كل لون وجنس في أكبر كرنفال تراه عيني، لدرجة أن سائحة هولندية سألتني هل هذا الكرنفال بمناسبة ذكري معينة؟!.. وطبعاً أجبتها أننا في شهر رمضان والإخوة الأتراك يشمون الآن عبق التاريخ لأجدادهم في هذا الشهر الفضيل.. التجمع البشري كان زائداً علي الحد، ذكرني تماما عندما نحتفل نحن المصريين بمولد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، أو بمولد السيدة زينب، وأمام رفع أذان المغرب، نجد ما طاب من المأكل والمشرب دون عناء البحث عن افطار، وصحيح أنه ليس بالمجان لكنه متوفر أمام الجميع... وعلي كل صائم أن يختار ما يشاء من طعام وشراب بما يتناسب مع مايدفعه من مال... وهناك من يجلس علي مقاعد خصصتها الدولة، وآخرون يفضلون الجلوس علي المقاهي التي تقدم وصلات من المديح النبوي باللغتين التركية والعربية. وفجأة دون أن تشعر تجد أن الليل قد اقترب من نهايته وحان وقت السحور وتكون قد استمتعت بسهرة رمضانية أكثر من رائعة وكأنها ليلة من قصص ألف ليلة وليلة.. ورغم أن أسعار الطعام والشراب غالية مقارنة بالأسعار في مصر، إلا أن عبق التاريخ الذي يأخذك في ساحة صوفيا، يجعلك تدفع كل مافي جيبك وأنت راض عما تفعل دون تذمر أو تأفف أو ضيق، وهذه هي الشطارة التركية التي لا نجدها في بلاد كثيرة.. فالمواطن التركي يتمتع بذكاء خارق في أن يعرض عليك بضاعته وتجد نفسك مدفوعاً لشرائها بطيب خاطر رغم ارتفاع سعر السلعة خاصة فيما يقدم من طعام وشراب.. ورغم ان معظم الأتراك لا يجيدون الا اللغة التركية وطشاش من العربية والانجليزية إلا أن أي مصري لا يجد مشكلة أبداً في التواصل مع اخوانه الأتراك بل أحيانا يتم تبادل النكات والمواقف ويضحك الطرفان دون أن تكون هنا لغة واحدة تجمعهما.. وقد اندهشت كثيرا امام هذه الظاهرة الغريبة، فلا هي لغة إشارة ولا الموسيقي حتي نقول انها تربط بين الطرفين لكن هناك ما يشبه الألفة والمحبة بين المصري والتركي تجعلهما يتحدثان بلغة لا هي تركية خالصة ولا عربية أصيلة ولا انجليزية عوان بين ذلك، إنما هي مزيج بين كل هذا، الأغرب انها تؤدي الغرض وتربط الحوار بين الأطراف. وسألت نفسي قد يكون ذلك بأن هناك عادات كثيرة مشتركة بين الأتراك والمصريين هي التي تذيب الفوارق في الحدث، وتجعل كل طرف يفهم الآخر وهناك تقارب وجداني في العادات الإسلامية، فإذا كانت القاهرة بلد الألف مئذنة فلا أكون مبالغاً إذا قلت إن اسطنبول من الآستانة القديمة.. عاصمة الدولة العثمانية، هي بلد المائة ألف مئذنة.. وقد يكون أن القاهرة الحالية كانت احدي الولايات العثمانية القديمة وهذا ما جعل هناك هذا التقارب الوجداني... والمعروف أن المصريين ورثوا من حكم العثمانية الكثير من العادات والتقاليد.. ولذلك لا نستغرب أن الشعب المصري هو الأقرب وجدانياً ونفسياً إلي الإخوة الأتراك، والمصريون يلقون الحفاوة البالغة من اخوانهم الأتراك ولهم معاملة خاصة بخلاف باقي شعوب الأرض. وللحديث بقية