ليس بمقدور أحد أن ينكر ما أحدثه ذلك الفيلم الذي تم بثّه وإعادته على أكثر من قناة تلفزيونية رسمية وخاصة من إثارة اقترنت بالفخر ولازمها الإعجاب والشعور الحقيقي بالاطمئنان. مثلما ليس بمقدور أحد أن يتجاهل رغبة ملايين المصريين – حتى من بين الذين شاهدوه - في إعادة عرضه والتحمّس الشديد لمشاهدته كتعبير وطني نقيّ خالص عن اعتزازهم ببطولات تاريخية حقيقية قام بها أبطال جسورون مقتحمون للمخاطر ومضحّون بالأرواح في شجاعة وإقدام تجاوزوا كل حدود المعقول دون أي مقابل، سوى تحقيق أمن وطنهم وإحباط خطط التآمر عليه وضرب استقراره وطمأنينته . وأنهم حين قاموا بذلك قد تجاوزوا مفاهيم الربح المعتاد وتعالوا على منطق الخسارة المتوقعة. حيث لا مكسب في عقيدتهم سوى تحقيق ما أقدموا مخاطرين بأرواحهم على تحقيقه بإرادة كاملة . ولا خسارة في حساباتهم غير ما يمكن أن يلحق بالوطن – في حالة الفشل لا قدر الله – من أضرار. أما ما أحدثه الفيلم من تأثير عميق بين جموع المشاهدين على اختلاف درجات ثقافتهم ونوعيات تعليمهم ووعيهم وتباين انتماءاتهم الفكرية والعقلية فراجع إلى صدقه في العرض مع بساطة السرد وموضوعية التعليق وصوت المذيع الجيد المقنع (حتى ولو كان متسرعا بعض الشىء) والوصف دون مبالغة والتجسيد بالصورة – رغم ضعف الصوت - دون تزييف أو تجميل أو تضخيم وافتعال للمشاهد؛ اعتماداً على لقطات حية مسجلة من أحداث ووقائع حقيقية وشخصيات حتمت الضرورة واعتبارات الأمن واحتياطات السرية ونجاح التنفيذ أن تكون مشاهدها قصيرة وخاطفة. مثل ما شاهدناه كنماذج من عمليات القبض على الجاسوسة الشهيرة «هبة» وخطيبها العميل . وأيضا في عملية فضح سرّ الصليب السحري المحشو بالأسلحة . وعملية ضبط الجاسوس «آلان» الذي تجلت خطورته وفعاليته وإتقان تدريبه أثناء الثورة وفي عمق الميدان والمساجد وتجمعات الثوار . ثم مبادلته بمصريين معتقلين في إسرائيل بصفقة ناجحة وعملية تم إعدادها بمهارة عالية وإتقان استخباراتي يشهد له . وكذلك القبض على الجاسوس الأوكراني الإسرائيلي والإيقاع بجاسوس هونج كونج وصفقة جلعاد شاليط –الذي طال إخفاؤه واحتجازه زمنا طويلا أرهق حكومات إسرائيل وشدد عليها ضغوط المعارضة حتى امتثلت للصفقة وتمت المقايضة التي شرحت صدور الجميع في مصر وفلسطين و الوطن العربي والمتعاطفين عالمياً مع قضية فلسطين. مثلما عوّضت قدرا كبيرا من تخاذل الحكم المصري القديم وتقاعسه وخذلانه لها بالدعم الحالي المتجدد لانضمامها إلى الأممالمتحدة وكسب أنصار ومؤيدين لموقفها منه. وقد تم إنجاز كل ذلك بالفعل رغم انشغال مصر بإعادة ترتيب أوراقها الداخلية – التي تبعثرت كثيرا واضطربت - بعد الثورة؟ .. كما كشف الفيلم عملية الصومال والقبض على العصابة المهربة لكمية ضخمة من الأسلحة والمكلفة باغتيال شخصيات كبيرة. وعن المصريين الذين تم تجنيدهم في الخارج . إلى جانب الكشف عن جرائم اقتصادية منظمة تم فضحها وإحباطها . وعن حل لأزمة العمالة المصرية المحتجزة - في أصعب ظروف الثورة الليبية وأشدها خطورة وتعقيدا - وبلغ عددها حوالي ثمانمائة ألف مواطن فقراء وبسطاء حكموا على أنفسهم بالغربة وأجبروها على الفرار هربا من حكم فاسد أذلّهم وسرقهم وجوعهم . وكان طبيعيا بعد عرض الفيلم أن تثار مناقشات كثيرة حوله فنيا وسياسيا. وأن تتعدد الآراء حول أهدافه ومغزى عرضه في هذا الوقت بالذات، حيث أعدت «أسوشيتيد برس» تقريرًا قالت فيه « إن المخابرات المصرية تحاول استعادة صورتها القديمة من خلال الفيلم ، لتحظى بدعم الرأي العام أمام التحديات التي تواجهها من الرئيس الإسلامي الجديد» . كما قالت أيضا إنها تحدثت عن إنجازاتها وقدمت نفسها كمدافعة عن الوطن والمتكفل بمواصلة حمايته .. وأنها العين الساهرة على ذلك».. أما الرد فهو أن كل ذلك لا يعيبها ولا يجوز لأي مصري مخلص أو محب لمصر متعاطف معها يريد الخير لشعبها أن ينكره أو يشكك فيه . كما أن القول عن أن الفيلم «قد لعب دورًا هامًا في انتشار المشاعر المعادية لإسرائيل بين المصريين بزعمه أن المخابرات قد منعت عن مصر كثيراً من مؤامرات إسرائيل وحلفائها الغربيين».. فهو حقيقة لا يجب علينا إنكارها أو الخجل منها . وإلا فليقولوا لنا ما هو دور الأمن الوطني في أي دولة من دول العالم إن لم يكن هو هذا الدور بالفعل؟! ولم يكن ذلك وحده كل ما قيل بالطبع. ولكن ما الذي ننتظره منهم غير التدخل السافر في أمورنا والتربص الدائم والانشغال المغرض بكل ما نمر به ونعيشه ؟ ليس عن رغبة في إسداء النصح أو تقديم الدعم أو المساعدة ؛ بل لأن مستقبلا كثيرا ينتظر مصر بعد الخروج من أزماتها الحالية ومصاعبها المتداخلة وحلولها الصعبة المعقدة ؟ .. وهي أزمات نعترف جميعا أنها قد طالت وأن كثيرا من حلولها قد تعثرت . لكن مصر – كما قلنا في مقال سابق – تفرغ الآن ما في جوفها وتلقي به إلى الخارج بعد أن حملت جراثيمه وأوبئته طويلا فمرضت واعتلت . وأن الخلاص منها لا يمكن أن يكون بغير ثمن . لكن المهم هو البدء في العلاج واستمراره بإخلاص وتعاطيه بثقة من أولوياتها الاطمئنان إلى قواته المسلحة وأمنها القومي وحكومتها الشرعية المنتخبة أيا ما كانت مع الضمان بدوام المراقبة الموضوعية واستمرار المعارضة غير المغرضة أو المتربصة المنتظرة للخطأ والمتمنية لوقوعها في العثرات . فإذا ما عدنا للفيلم القوي المؤثر مرة أخرى ومن وجهة نظر نقدية بحتة ؛ فإن الجوانب الإيجابية فيه كثيرة وأولها التأكيد المدروس على ضرورة وحدة الشعب واتحاده مع مؤسساته الحامية الحارسة وفي مقدمتها الأمن القومي والجيش . وليس في ذلك ما يعيب. بل إنه الواجب والضروري والحل . كما أن شعاراته قد صيغت بعناية وبتلخيص وتركيز . وكلها تدعو إلى الثقة وتؤكد ضرورة وأهمية نبذ الشائعات والتعامل بإيجابية وحذر مع كل ما يمكن أن يثير الشبهة وينشر التشكيك من أشخاص وأخبار وأحداث كالإفضاء الجزافي بالمعلومات والوقوع الساذج في فخاخ الجواسيس والعملاء. وقد تمت صياغة كل ذلك في عبارات وشعارات موجزة متماسكة لغويا وموسيقية سريعة الإيقاع مثل : «اوزن كلامك قبل ما تقوله.. و .. مصر أكبر .. مصر تقدر وأكتر .. و.. الشائعات تبدأ بكلمة وتنتهي بانفجار .., همه دول اللي ...» بل إن بعضها صدر وكأنه أبيات شعرية منغمة وموزونة يسهل حفظها وترديدها ! بقي ما يمكن أن يقال – وقد قيل كثير منه - عن الصنعة السينمائية ونقدها . وهو ما لا ينبغي أن نتوقف عنده لأنه مجرد «هنّات» بسيطة ضمن عمل كبير غايته نبيلة وأهدافه عظيمة وأظن أن الذين قاموا بتنفيذه بل وإبداعه ليسوا من كبار المتخصصين المهنيين المحترفين والحمد لله أنهم لم يكونوا كذلك، وإلا كان من الممكن أن يشوب هذا العمل الذي أهم ما فيه هو «بساطته وواقعيته» قدراً لا يحتمله - ويمكن أن يؤثر فيه سلبا – من الإضافة أو الافتعال أو الجماليات الزاعقة الزائدة التي كان من شأنها أن تفسد بساطته وأن تعترض مسار تأثيره الواضح وتسدّ الطريق على تلقيه المقنع البسيط بالرغبته في تحويله إلى فيلم روائي أو تمثيلية action تحفل بالإثارة لكنها تفتقر إلى الإقناع ! د. أسامة أبوطالب