الذين لا يريدون أن يروا ضوءا في آخر النفق لأنهم لم يروا ضوءا في أوله ولا في وسطه لأنهم يفضلون أن نعيش ويعيشوا في ظلام يتخفون ويتآمرون فيه. ولأنهم مرضى لا يريدون للجنازات أن تنتهي حتى لا يكفوا عن اللطم ليس دفاعا عن موقف ولا انتماء لرأي. بل لأن وظيفتهم الحقيقية وأدوارهم التي يجيدونها ويتكسبون منها هي الصياح والصراخ نشرا للزعزعة وترويجا للبلبلة وللتشتيت. ومن أجل ذلك كلما رأو ضوءا يلوح أطفئوه. وكلما استشعروا الهدوء قابلوه بالضجيج. كما أنهم يتلونون دائما ويتقلبون أبدا. اليوم يمينا وغدا يسارا. اللحظة هنا وبعد لحظة هناك. بل ربما تعدت قدراتهم الخارقة ذلك فوجدوا في أكثر من مكان في نفس الوقت. وتحدثوا في أكثر من بوق . وانتموا لأكثر من تيار. ورفعوا أكثر من صورة، لا يهمهم أبدا أن ينكشفوا أو يفضحوا. مثلما لا يخجلهم إظهار صورهم تتقلب وآرائهم تتناقض وأقوالهم تتغير ! ليس لأن لديهم تبريرا لكل موقف يتخذونه ثم يغيرونه وتفسيرا لكل رأي ينادون به ثم سرعان ما يعدلون عنه . بل لأنهم فقدوا حاسة الخجل أصلا فلم يعودوا يحسون به . مثلما تخلوا عن الاحترام لذواتهم بعد أن أصبحوا بضاعة في كل متجر ومتسولين على كل رصيف سياسي!.. ولأنهم يتعيشون على نشر الشائعات و يستأجرون لإثارة القلق وتبديد الطمأنينة والتبشير بالخراب، فقد هالهم أن تبدأ مصر في استرداد عافيتها . وأتعبهم أن تتجنب البلاد كارثة الانقسام. وأرّقهم أن تبدأ بشائر التقارب تلوح مستجيبة لصوت العقل وملبية نداءات الحكمة ودعوات المصالحة والوفاق فبدأوا يعترضون اتصال الأفكار ويقطعون الطريق على الأيادي الممدودة للاتفاق بنشر شائعات الرعب وبذر بذور توقع الكارثة وحدوث الطوفان كي نسمع عن خوف المصريين المسيحيين من مذابح تنتظرهم وعن غزوات تعدّ للانقضاض عليهم وكنائس تهدم فوق رؤوسهم. وعن رعب رجال أعمال بدءوا يهربون بما استطاعوا أن يحملوه من ثرواتهم. وعن مسئولين يمهدون لهم طرق الهرب ويفتحون لهم أبواب الإفلات. كما بدأنا نسمع منهم عن شائعات لتنقيب إجباري قادم للبنات وتحجيب بالقوة للسيدات وإغلاق للمدارس المختلطة وتوقيف للفنانين واستتابة للفنانات وزي إجباري يقرر علينا من الجلاليب والدشاديش وإطلاق رسمي للّحية! هكذا وبسرعة نبروا في رسم صورة حالكة لمصر لم تعرفها في أشد أيامها قتامة بل لم تعرفها أوروبا في عهود محاكم التفتيش. ولا ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية وأمريكا العنصرية في عز سطوة حركات تكميم الآراء وتعقب المفكرين سياسيين وكتابا وفنانين من قبل دعاة المكارثية وجماعات الكوكلس كلان الإرهابية. ولم يعشها الزنوج ولا الملونون في بريطانيا حين كانوا يمنعون من مطاعم البيض ويبعدون عن الاقتراب من مقاعدهم في المواصلات هم والكلاب سواء بسواء. كل ذلك ليس لأن حزبا مصريا هو الحرية والعدالة فاز في الانتخابات و أن مصريا ينتمي إليه قد فاز بمقعد الرئاسة. أو لأن أفكارا إسلامية لم تعد متعقبة ولا مطاردة قد سمح لها بالخروج إلى النور. بل لأن مصر الديمقراطية مقبلة – بعد استقرارها الوشيك بإذن الله –على نهضة اقتصادية حقيقية وعلى تقدم سوف يحدث كثيرا من التغيير يعيد ترتيب أوضاع وحسابات وموازين القوة والثروة وصنع القرار في هذه المنطقة المتوترة. وكأنما نسي هؤلاء المثيرون للفزع والمبشرون بالخراب القادم والكوارث المقبلة أن الساحة التي فتحت للرأي واتسعت لحرية القول وحرية الفكر وحرية العمل لن تعود فتغلق أبدا ولن يقدر على ذلك سوى عميل أو خائن متآمر او مجنون. فلننتظر إذن ما يحدث مراقبين ومشاركين إيجابيين. ولنرصد ما يتغير وما يتحقق وما يستعصي على التغيير في لحظة وما يتطلب الانتظار وقتا أطول. ولنبدأ بحسن النية واثقين أن فعلا قسريا لتغيير طابعنا أو مزاجنا أو عاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا لن يحدث ولن تقدر عليه قوة أيا ما كانت فاعلة أو مؤثرة أو حتى باطشة . فهكذا تقتضي أعراف الديمقراطية وتؤكد حقيقة ما حدث من تغيير. د. أسامة أبوطالب