مثلما ترسم الدول حدودها البرية بين بعضها البعض، للمياه كذلك حدودًا يتم ترسيمها طبقًا للقانون الدولي المعروف بقانون البحار. وشكلت منطقة شرق البحر المتوسط، خلال السنوات الماضية، خطرًا حول احتمالية وقوع خلافات حادة قد تؤدي إلى حرب إقليمية فيما بعد جراء اكتشاف كميات هائلة من حقول الغاز، قادرة على المنافسة عالميًا. تقع منطقة شرق البحر المتوسط على الحدود بين كل من مصر وفلسطين والاحتلال الاسرائيلي، والأردن، وقبرص واليونان، لبنان، سوريا، تركيا. إلا أن الحقول المكتشفة في السنوات الأخيرة، كانت بالقرب من المياه الاقليمية الفلسطينية، والمصرية، إلى جانب اليونان وقبرصالمحتلة من تركيا، وهو ما جر معه اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين الدول الثلاث الأخيرة في 2013. تصاعدت أزمة الغاز في شرق المتوسط، بعد التهديدات التركية في أكثر من مناسبة منذ 2011، حول أحقيتها في آبار قبرص، جاء أخرها السبت الماضي. إذ أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن من حق القبارصة الأتراك الحصول على جزء من احتياطيات النفط والغاز التي تنقب عنهما قبرص. وحذرت السلطات المصرية، السبت الماضي، بحسب بيان وزارة الخارجية، في بيان وصفه البعض بأنه شديد اللهجة، "من انعكاس أية إجراءات أحادية على الأمن والاستقرار في منطقة شرق المتوسط، مؤكدة على ضرورة التزام أي تصرفات لدول المنطقة بقواعد القانون الدولي وأحكامه". كما صرح وزير الخارجية القبرصي فاسيليس بالماس، أمس الأثنين "أن بلاده سوف تثير قضية تركيا أمام الاتحاد الأوروبي، خلال القمة المنتظرة الخميس المقبل". جاء هذا التصريح، عقب اصدار السلطات القبرصية، مذكرة اعتقال دولية، بحق طاقم سفينة تركية كانت تنقب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية بجزيرة نيقوسيا اليونانية. حلم تركيا تعتبر تركيا بوابة كبرى مهمة لنقل الغاز إلى أوروبا، وتحاول أنقرة الاحتفاظ بهذه المهمة قدر المستطاع، لأنها تمثل ورقة أساسية تدعم موقفها أمام الاتحاد الأوروبي الذي تسعى منذ سنوات للانضمام إليه. مع ظهور الغاز بقوة في البحر المتوسط بالقرب من سواحل جزيرة قبرص اليونانية، ظهرت أمام الرئيس التركي فرصة جديدة للتقارب مع أوروبا. إذ تحتل تركيا جزيرة قبرص منذ 1974م، وانقسمت بعدها الجزيرة إلى جانب شمالي بأغلبية تركية في السكان، والجزء الجنوبي بأغلبية يونانية. في عام 2011 أعلنت قبرص اليونانية بدء التنقيب عن الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، وهو ما أدى إلى تجدد الخلافات مع تركيا مرة آخرى. ووجدت أنقرة أن لها نصيب من غاز المنطقة، إلا أن الجزيرة اليونانية تجاهلت تلك التصريحات، واستمرت في التنقيب حتى أعلنت عن اكتشاف أكبر حقل غاز في تاريخها وهو "أفروديت"، ما أثار حفيظة تركيا. وهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بإعادة ترسيم الحدود مع ما تسميه (جمهورية شمال قبرص التركية)، وهي الدولة التي لا يعترف بها أحد سوى أنقرة، حتى تستطيع التنقيب عن الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط. كما حاول عرقلة جهود قبرص اليونانية أكثر من مرة أثناء عمليات البحث عن الغاز، فضلًا عن التهديد بالحرب من خلال استعراض قوات بلاده البحرية في المنطقة. وفي بداية 2014، اتهمت قبرص السلطات التركية بمحاولة التعرض لإحدى السفن النشطة في التنقيب وأبحاث جيولوجية في المنطقة بعدما اتهمتها بالدخول إلى "المياه التركية"، في حين أكدت قبرص أن السفينة كانت متواجدة في المنطقة الاقتصادية التابعة لها. مع سعي تركيا الحثيث لعرقلة جهود الجزيرة اليونانية، كانت الأخيرة مستمرة في البحث عن الغاز داخل المنطقة الاقتصادية خاصتها طبقًا للقنوانين الدولية، بل قامت بتوسعة نطاقها الحدودي من المياه إلى 12 ميلًا في نهاية 2018، وهو ما أغضب أردوغان، الذي صرح حينها قائلًا إن "بلاده لن تتراجع عن موقفها في شرق المتوسط، وستدافع عن حقوقها حتى النهاية". وفي نوفمبر 2018، وقعت أربع دول، وهم اليونان وقبرص اليونانية، وايطاليا، والاحتلال الاسرائيلي، اتفاقية توريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا مرورًا بالبحر المتوسط، في تجاهل واضح وصريح لأنقرة كبوابة رئيسية للطاقة الأوروبية. حاولت تركيا التأكيد مرة أخرى في يناير الماضي، على تحديها للجميع بأنها سوف تواصل التنقيب عن الغاز حتى سبتمبر القادم، في سواحل جزيرة قبرص. فكان التصعيد ضد أنقرة مرة أخرى، من الدول التي تمتلك استثمارات في المنطقة، وتم تشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط" في القاهرة بالاشتراك مع 6 دول أخرى بخلاف مصر، دون تقديم الدعوة إلى تركيا. وبحسب ما أعلنته وزارة البترول المصرية فإن هدف المنتدى الرئيسي هو "العمل على إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية". ويستهدف المؤسسون لهذا المنتدى إلى "إنشاء منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، وتدعم جهودهم في الاستفادة من احتياطاتهم واستخدام البنية التحتية وبناء بنية جديدة، وذلك بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم". وينظر الاتحاد الأوروبي، حاليًا، بقلق شديد إلى تلك التهديدات التركية، مؤكدًا على أنقرة بضرورة احترام الحقوق السيادية والامتناع عن أي عمل غير قانوني. منفذ جديد تعد تركيا دولة مستهلة للغاز، وليست منتجة بالأساس، حيث تعتمد على حوالي 76% من استهلال الغاز الطبيعي، المستور من روسيا وإيران معًا. بالنظر إلى التوترات السياسي خلال السنوات القليلة الماضية، سيظهر أن تركيا مُهددة في أي وقت بعدم الحصول على الغاز الطبيعي، مما يجعل أنقرة في حاجة ماسة إلى تنويع مصادرها من الطاقة ربما قبل نهاية العام الجاري. ويصل الاستهلاك اليومي من الغاز الطبيعي في تركيا خلال أيام الشتاء إلى 230 مليون متر مكعب، وقد بلغ حجم استيراد تركيا من الغاز الطبيعي. في عام 2015 تنبأ محللون باحتمالية قطع روسيا الغاز عن تركيا، عقب اسقاط الأخيرة طيارة عسكرية من طراز سوخوي، داخل المجال الجوي السوري الذي تتواجد فيه موسكو دعمًا للرئيس بشار الأسد. وأكدت تقارير إعلامية تركية آنذاك، أنه في حال قطع الغاز الروسي، فإن أنقرة لديها احتياطي يكفي السكان لمدة 14 يومًا فقط. لم تقطع روسيا الغاز عن أنقرة، إلا أن تركيا لاتزال تسعى للسيطرة على الشمال السوري، في حين يحاول الرئيس بشار الأسد، استعادة تلك المنطقة تحت حكمه مرة آخرى. أما عن الجانب الإيراني، فتعاني طهران من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولاياتالمتحدة عليها، لمحاولة تصفير وارداتها من النفط. وبالرغم من أن تلك العقوبات لم تشمل الغاز الطبيعي، لكن مع التصعيد الإيراني، والتهديد بغلق مضيق هرمز في وجه واشنطن حتى لا تستطيع الحصول على نفط الخليج، يجعل هناك احتمالية بفرض عقوبات أخرى على تصدير الغاز كذلك.