الملكة«نازلى» كانت وفدية خالصة ووضعت ثقتها فى «زغلول» و«النحاس» لغز القاعة الشرقية وغرفة عمليات الثورة ببغاوات الزعيم تستقبله بهتاف «سعد..سعد..يحيا سعد» ..وزوجته نسجت بيديها على فراشه«صباح الفل يا جميل » كثيرة هى المائة عام، وقاسٍ جداً ذلك التاريخ؛ فمنْ منا سيذكره الناس بعد سنوات قليلة ولو قليلاً؟ نحن لا نطمح لأن يذكرنا التاريخ، ولا أن نوسع دائرة السنوات للمائة، فلنكتفِ بالمقربين منا، وبعشر سنوات فقط، لا يذكر فيها بعض البشر بعض الأذى الذى نالهم منا، فإن كنا لم نفعل الخير الذى انتظروه منا، فعلى الأقل لا نكون قد قدمنا لهم الشر الذى خشوه فينا، أثق أن كثيرين يبننا صاروا لا يتمنون أكثر من أن يطوى الثرى ذكراهم بعد الرحيل تماماً، فلا يتذكر الناس سوءاتهم وعوراتهم وأن يصبحوا نسياً منسياً، بعدما أثبتت التجربة إخلاص التاريخ للحقائق فقط، وأنه لم يكن يوماً رحيماً ولا ضعيفاً، فهو يعرف جيداً كيف ينتقم ممن يزيفونه أو يشهدون عليه زوراً، ففى لحظة ما، هو قادر على البوح، على أن يخرج على نسلهم ونسل نسلهم بكل خباياهم، فيقض مضاجع الأحياء فيهم والأموات منهم؛ لذلك علينا أن نتمنى أن نسير بين الناس هامشاً دائماً، بدلاً من أن نصير يوما اسماً يحمل غماً عليهم. لكن لأن الاستثناء جزء من القاعدة، فدائماً ما تهدى الحياة للبشر استثناءاتها التى تهوّن عليهم ثقلها، مِن هؤلاء منْ يتخطى التاريخ بل والجغرافيا أيضاً، فتنتفض لهم الشعوب لحظة ذكرهم ، بل ويظل التاريخ هو الذى يحرس هذه الذكرى مئات الأعوام وليس مائة عام فقط. واليوم وفى مئوية ثورة 1919 لن يكون هناك حديث للمصريين سوى عن سعد زغلول وحزب الوفد؛ لهذا اخترنا زيارة جزء حميم من حياة الزعيم، وهو بيته الذى يعد الآن متحفاً من أهم متاحف القاهرة، كى نحيى من خلال جولة فيه مئويته الأولى. «محطة سعد زغلول» من الأفضل لك أن تستخدم مترو الأنفاق فى الذهاب إلى هناك، حتى تصل إلى محطة سعد زغلول، والتى سوف تخرج منها إلى الشارع الذى يحمل الاسم ذاته والمتفرع من شارع الفلكي، لتجد الأمر الطبيعى لكل محطات المترو فى القاهرة والتى تستقبل ركاباً وتودعهم، حيث يحولها صغار الباعة إلى ملتقى للعابرين، يعرضون فيها بضائعهم؛ فتجد شارع إسماعيل أباظة وهو الشارع الذى يعد امتداداً طبيعياً لمحطة المترو، ورغم ضيقه وقصره إلا أن الباعة استطاعوا إقامة سوق كبير فيه ملىء بكل أصناف السلع. وفى الجهة المقابلة من السوق يمكنك أن تلحظ بوضوح ضريح سعد زغلول، ومتحف بيت الأمة، وبحكم استراتيجية الموقع ستجد أن المنطقة يحيطها عدد من الوزارات المختلفة، كالتعليم، والصحة ، والإنتاج الحربى، والعدل. «هنا عاش» يافطتان كتب عليهما « هنا عاش» هما أول ما يستقبلك بعدما تصل إلى البوابة الحديدية التى تتوسط السور العالى الذى يلتف حول المتحف، الأولى والتى تحتل الناحية اليمنى تحمل اسم الزعيم سعد زغلول، والأخرى تحمل اسم صفية زوجته، وبمجرد أن تعبر بين اليافطتين وتجد نفسك داخل المتحف،سترى تمثالاً نصفياً لسعد زغلول، نحته الفنان المصرى الشهير محمود مختار. عندما يكون مرشدك واعياً ومثقفاً وقارئاً للتاريخ ، تأكد أنك سوف تفوز بجولة مميزة وممتعة، فما بالك لو كان عاشقاً للمكان ويرى كل يوم بخياله الأشخاص الذين عاشوا فيه، ويتمثلهم فيعشقهم، كانت هى كذلك؛ فهى تمتلك عن البيت مشاعر تخصها وحدها، ربما لن تجدها فى أى كتاب أو وصف آخر للمكان، فهى ترى أن المنزل جمع بين فكرة الكرم الريفى الذى يكون أهل البيت فيه على استعداد متواصل لاستقبال القريب والبعيد وهو فكر يخص الزعيم سعد زغلول، لكن هذا الكرم تم ترتيبه على الطريقة الأرستقراطية، وهو ما كان بناء عن وجهة نظر زوجته صفية زغلول. إنها رشا عبد العزيز والتى تعمل كأحد أمناء المتحف والذين يبلغ عددهم حوالى ثمانية أمناء، والتى تخرجت فى كلية الآداب قسم التاريخ، والتى كانت الدكتورة إخلاص عبد العزيز مديرة المتحف قد عهدت بنا إليها لتأخذنا فى جولة فى المكان. «بيت الأمة» بيت عدد طوابقه ثلاثة، وعدد غرفه أربع عشرة، لا يحتوى سوى على جناح واحد للنوم وغرفة طعام، وبعد ذلك كل ما تبقى من المنزل عبارة عن صالونات وقاعات استقبال، تأتى بكل أشكالها وصورها؛ منها الصيفى والشتوى، الصغير والكبير، الرجالى والنسائى، والعلوى والأرضى، وهو ما يجعلنا نوقن أننا بالفعل فى منزل فى حالة استعداد دائم لاستقبال الضيوف فتعرف ببساطة لماذا أطلق عليه الشعب اسم «بيت الأمة». «أم كلثوم».. هنا جلست سيدة الغناء العربى «أم كلثوم» ترتدى فستاناً أسود وجورباً بنفس اللون وكذلك القبعة، لتستقبلها السيدة صفية زغلول ترتدى أسود لا يقل عما ترتديه كوكب الشرق ، ويعتلى قلبها حزن لا يقل عن حزن تعيشه مصر كلها؛ لتتقبل منها العزاء فى فقيد عمرها الزعيم سعد زغلول بعد وفاته بأيام، إنه الصالون الصغير فى الدور الأرضى والخاص بالسيدات والذى يحتوى على أريكة مكسوة بقطيفة زيتية اللون خاصة بصفية زغلول، كانت تجلس عليها، وضعت عليها مروحة من ريش النعام كانت تخصها أيضاً، وعدد من مقاعد الصالون الفرنسى التى امتلأت بها الحجرة الخاصة بالنساء من الضيوف. «هدى شعراوى».. أما هدى شعراوى فقد كان مكانها فى منزل زعيم الأمة هو قاعة الاستقبال الشرقية، والتى تعد من أكبر قاعات المنزل والتى اختلفت عن الذوق الفرنسى والبلجيكى اللذين ملآ القاعات الأخرى، وهى تعد تحفة فنية من فن الأرابيسك والحفر على الخشب بالصدف والعاج من الصناعات المحلية اليدوية وفن المشربية، وهى قاعة موجودة فى عمق المنزل دلالة على أنه لن يدخلها سوى المقربات بالفعل، كانت القاعة الشرقية متواجدة فى أغلب البيوتات المصرية فى ذلك الوقت ، وكان سعد باشا حريصاً على وجود هذه القاعة فى منزله ، وقد أهداها لزوجته لاستقبال صديقاتها فيها. لم يكن سعد باشا يعرف وقت أن أهدى زوجته هذه القاعة، أنها سوف تكون غرفة عمليات لاجتماعات أول تنظيم نسائى ثورى فيما بعد، لخروج المرأة ومشاركتها لأول مرة فى التاريخ الحديث فى ثورة شعبية عظيمة هى الأولى من نوعها فى إفريقيا والشرق كله، كانت صفية زغلول وهدى شعراوى هما الخلية الأولى وصاحبتى فكرة خروج المرأة للتظاهر. بدأت الفكرة بامرأتين وتم تنفيذها من خلال أول سرية للمرأة خرجت من بيت الأمة قوامها مائة امرأة، بعد استئذان أعضاء حزب الوفد لفكرة خروج المرأة فى الثورة، وبالفعل اجتمع الحزب من أجل مناقشة الأمر، وفى البداية لم تلق الفكرة ترحيباً من أعضاء الحزب، ليس عدم إيمان بدور المرأة المصرية إنما خوف وغيرة عليها، فأرسل الحزب عبد العزيز فهمى وعبد الرحمن فهمى من أجل إقناع النساء بالعدول عن فكرة الخروج إلى الشوارع فى مظاهرات، لكن صفية زغلول أصرت على مطلبها فى الخروج هى والنساء، وألحت فى موقفها حتى وافق الحزب، وخرجت نساء مصر بالفعل فى مظاهرات نسائية لأول مرة للمشاركة فى ثورة 1919. وسقطت من بينهن أول شهيدة هى السيدة حميدة خليل، وبعدها خرجت فتيات مدرسة السنية بعدما رأين صفية زغلول وهدى شعراوى تتقدمان النساء فى مظاهرة. «الملكة نازلى».. وقد تشرفت هذه القاعة باستقبال عظيمات مصر، تأتى فى مقدمتهن الملكة «نازلى» زوجة الملك فؤاد الأول والتى كانت وفدية خالصة، وكانت تعتبر سعد باشا المستشار الخاص بها، حتى أنها بعد وفاته أزاحت ثقتها إلى النحاس باشا كاتماً لأسرارها، إيماناً منها بأن الوفد هو سند مصر والمصريين، كذلك الأميرة عين الحياة، وأمينة هانم زوجة الخديوى توفيق ووالدة عباس حلمى الثانى والتى أطلق عليها المصريون«أم المحسنين»، والأميرة زينب ابنة الخديوى اسماعيل أخت الأميرة فاطمة؛ التى أوقفت قصرها ومجوهراتها لبناء جامعة فؤاد الأول، شريطة أن تتعلم الفتيات جنباً إلى جنب مع الذكور فى الجامعة المصرية الأولى. «فتوغرافيا».. عدد كبير من الصور الفتوغرافية امتلأت بها جدران المنزل، كان أغلبها لسعد زعلول وبعضها لزوجته، وأخرى للمقربين من العائلة و الأصدقاء، ومع كل هذا الكم من الصور إلا أنها صورة وحيدة هى التى جمعت بين الزعيم و زوجته، وهى الأشهر لهما معاً وقد وضعت فى الصالون الصغير بالدور الأرضى. أما صورة أحمد فتحى زغلول شقيق الزعيم والذى كان يعمل وكيلاً للنائب العام، وصاحب أكبر حركة ترجمة لكتب القانون من الفرنسية إلى العربية، فقد وضعت فى حجرة المكتب الشتوية التى تخص سعد زغلول والتى احتوت على مكتبه وأدوات الكتابة الخاصة به، والتى كان يفضل الكتابة والقراءة فيها، على الرغم من وجود قاعة مكتبة خاصة وكبيرة بالمنزل، تعد من أهم مقتنيات المتحف، ضمت حوالى 4800 كتاب؛ أغلبها كتب فى التاريخ، مثل تاريخ المغرب العربى، ومجموعة وصف مصر والتى تم نقلها من المتحف بهدف الحفاظ عليها. أما الصورة الأكثر جمالاً فى المكان فهى التى التقطتها عدسة مصور سعد زغلول قبل رحيله بأيام، وكانت بملابس التشريفة، وإن بدت عليه فيها علامات الإرهاق ولكنها الصورة الأكثر تأثيراً، حيث ذيلها استديو التصوير بكلمة المرحوم، وأهداها لزوجته بعد وفاته بأيام، وهى التى وضعتها فى غرفة الملابس الخاصة بها. تلك الغرفة التى شهدت ملابس حدادها عليه، فليس هناك فستان واحد بلون غير اللون الأسود، وذلك لأنها كانت قد اتخذت قراراً بألا تخلع الأسود بعد وفاة زوجها. ولكن عندما دعاها القصر الملكى لحفل تتويج الملك فاروق الأول ملكاً على مصر والسودان عام 1936 أى بعد وفاة الزعيم بحوالى تسعة أعوام، أرتأت صفية أنه من غير اللائق حضور الحفل الملكى بملابس الحداد السوداء، فاختارت اللون الأبيض كى ترتديه فى هذه المناسبة وسجلت هذه اللحظة فى صورة فوتوغرافية بديعة، وضعتها فى غرفة نومها هى وزوجها. «الجناح الخاص».. أما عن غرفة النوم فى المنزل، فقد احتوت على فراشين متماثلين من العمدان النحاسية التصقا ببعضهما تماماً، ووضعت عليهما ناموسية من الحرير صنعتها بيديها، وكتبت عليها جملة مصرية رائقة لا تكتبها سوى امرأة عاشقة قالت فيها : «صباح الفل يا جميل.. الشمس طلعت على السرير»، وعُلق على كل من الفراشين من أعلى مصحف وضع كل منهما فى جراب أبيض.. أحذية الزعيم وطربوشه وعصواته العاج والأبانوس والمصلية الخاصة به وصندوق خشبى سحرى كان بمثابة حافظة أوراق مهمة؛ تعتبر من أهم كنوز الغرفة، وكذلك النتيجة التى ثبتتها زوجته على الجمعة 23 أغسطس 1927 وهو يوم وفاته. من اللافت فى المكان أيضاً أن مفارش المنزل كلها صناعة يدوية وهى من شغل زوجة الزعيم، ما يؤكد أن صفية زغلول كانت سيدة منزل بامتياز حتى أنها صنعت أغطية من الكروشيه لحاملات الملابس فى غرفة ملابسها بيديها، لأن أغلبها كان من الحرير؛حتى لا تخدش نعومتها، وكان من أهم ما يميز هذه الغرفة قفص يحتوى على عصفور صغير محنط يخصها. لم يكن هو قفص الطيور الوحيد فى المنزل، ولكن بعد الصعود إلى الطابق العلوى تقابلك كائنات محنطة عاصرت الزعيم ، بل كانت صديقة له وكان يشرف بنفسه على إطعامها، وكانت تستقبله كلما دخل إلى المنزل مرددة الشعار الذى كان يملأ شوارع المحروسة فى ذلك الوقت وهو «سعد..سعد.. يحيا سعد» وهو الهتاف الذى كان قد تعودا أن يسمعاه خارج المنزل بشكل يومى، فيقولها أحدهما باللغة العربية بينما يرددها الآخر بالفرنسية التى كان قد تعلمها من صفية أم المصريين، إنها طيور سعد زغلول وهى عبارة عن ببغاوين سكنا قفصيهما بعدما تم تحنيطهما حفاظاً على تواجد ذكراهما كجزء مهم من المكان. كل هذه المعلومات كانت قد حكتها السيدة فريدة كابس، التى كانت تتولى إدارة المنزل أثناء إقامة الزعيم وزوجته فيه، حين تولت أمور تسليم القصر ومحتوياته إلى وزارة الثقافة، بعدما تقرر تحويله إلى متحف، واحتفظ بها القائمون على إدارة المتحف بها فى ذاكراتهم من فرط جمالها. «الردهة».. تعتبر الردهة الموجودة بالطابق الثانى من أهم ما يميز متحف سعد زغلول، لما احتوته جدرانها من وثائق مهمة ومميزة، لكن تظل صورة التوكيلات من أهمها،وهى وثيقة ليس لها وجود مماثل فى أى مكان غير المتحف، ولا حتى صورة منها. أما خريطة مصر والسودان والتى شغلتها حرم الدكتور محمد المصرى عام 1912، بيديها على قماش من الحرير، فهى تعد بالفعل تجربة عبقرية، حيث رسمت الخريطة بالرصاص ثم نحتت الخطوط بالتطريز البارع، والأكثر براعة كان تمصيرها لكل الأسماء الحيوية على الخريطة، فمثلا أطلقت على البحر المتوسط اسم بحر الوفد المصرى، نهر النيل أسمته نيل الحرية، أما البحر الأحمرفأطلقت عليه بحر الضحايا، والخليج العربى كان خليج الشهداء، واستبدلت منابع النيل مصطفى كامل، سعد زغلول، النحاس باشا، محمد فريد ، وكذلك لم تنس نهر السيدات وبحر الطلبة ونهر العمال وبحر الأمراء، وبحر الغلابة، وإن أكدت هذه الخريطة على شيء، إنما تؤكد على أن هذه الثورة كانت ثورة لكل المصريين و أن هذا البيت كان بحق بيت الأمة. أعد متحف سعد زغلول عدة فعاليات سوف تقام طوال شهر مارس تزامناً مع الاحتفال بالمئوية، هذا ما أكدته رشا عبد العزيز أمينة المتحف خاصة بعدما تم تخصيص الطابق السفلى من المنزل؛ ليكون مركزاً ثقافياً تقام فيه الندوات السياسية، استمراراً للدور التاريخى لبيت الأمة، حيث يقام فيه صالون ثقافى شهري، يستضيف رجال السياسة والفكر المصرى والفنانين، بهدف مناقشة الأوضاع المصرية على كافة الأصعدة، وعن البرنامج اليومى لأمناء المتحف ذكرت «عبد العزيز»: أن الزيارة تبدأ فى المتحف فى العاشرة صباح كل يوم ماعدا الجمعة والاثنين وحتى الساعة الرابعة، وعن صيانة المكان أكدت أن هناك برنامج تنظيف يومياً تقوم به العاملات فى المكان، أما عن الترميم ؛ فأشارت إلى أن هناك برنامجاً ترميمياً لكل قطعة فى المكان عن طريق ما يعرف « بشيت الترميم»، حيث يكون من مهام الأمناء تقديم تقارير يومية عن حالة المقتنيات، وإذا ما كانت هناك حاجة ملحة للترميم السريع فيتم فورا، وإذا كان الأمر كبيراً فإنه يدخل فيما يعرف بالجدول.