[جلال عارف يكتب:مصر.. بين الصفقات الفاسدة والمواجهات المحتومة] جلال عارف كان من المفترض أن تكتمل اليوم كل مؤسسات الدولة المدنية في مصر، تمهيدا لاستلام نهائي للسلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في نهاية هذا الشهر. الآن يبدو المشهد كله ضبابيا، بعد أن اختلطت الأوراق بحكم المحكمة الدستورية الأخير. أكتب هذا المقال قبل ساعات من بداية انتخابات الرئاسة، ومع ذلك رغم التأكيدات فلا أحد يعرف هل ستتم بخير. وإن كان المؤكد في كل الأحوال أنها لن تكون الطريق لاستقرار الأمور في مصر أياً كان الفائز، وأننا نقف في نهاية ما قيل إنه مرحلة انتقالية، أمام مشهد يجسد الفراغ الكامل، حيث لا دستور، ولا برلمان، ولا رئيس (إذا تم انتخابه فسيكون تجسيداً للانقسام وباباً لصراعات لا يعلم إلا الله مداها). الغريب أن كل أطراف الصراع كانت تتوقع أحكام المحكمة الدستورية التي صدرت الخميس الماضي، وأنها مع ذلك تبدو كأنها فوجئت! أو كأنها تنتظر "شيئاً ما" يؤخر لحظة الحقيقة، ويكشف أن المسار الخاطئ الذي سارت فيه الأمور منذ سقوط النظام السابق، كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أخرى! كانت الأطراف المتصارعة تتوقع الأحكام التي صدرت وتستعد لها. الإخوان المسلمون وحلفاؤهم الذين يشكلون الأكثرية البرلمانية، سارعوا بتشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وفرض سيطرتهم عليها، على أمل الاحتفاظ بورقة ضغط في مواجهة الأحداث القادمة. والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وجه إنذاراً له مغزاه، باستصدار قرار يمنح ضباط المخابرات الحربية والشرطة العسكرية سلطة الضبطية القضائية للتعامل مع أي أحداث متوقعة. وإذا كانت "المواجهة" قد تأجلت، بعد قرار الإخوان المسلمين الاستمرار في المنافسة على مقعد الرئاسة ضد أحمد شفيق، فإن التأجيل لن يطول إذا انهزم مرشحهم الدكتور مرسي في الانتخابات، ولن يطول أيضاً إذا فاز وتسلح بشرعية الرئاسة في مواجهة الجيش! هذه المواجهة هي ما تحسب له من البداية فريق كبير في قيادة جماعة الإخوان المسلمين، كانوا يمثلون الأغلبية التي عارضت تقديم مرشح من الإخوان للرئاسة، ولكن الجناح المتشدد بقيادة خيرت الشاطر أصر على أن هذه فرصة لا تتكرر إلا كل خمسين سنة(!) ولا بد من استثمارها وعدم الخوف من الاتهامات بالانفراد بالسلطة! بعد عام ونصف من الثورة.. كان الأمل عند الكثيرين أن نعود إلى نقطة الصفر، لكن حتى ذلك لم يتحقق مع استمرار معركة الرئاسة التي كان الكثيرون يأملون في إلغائها بحكم القضاء أو بأي طريقة أخرى، لنطوي صفحة هذا المسار الخاطئ الذي أجبرت الثورة المصرية على السير فيه، بسبب الصفقة المبكرة بين قيادة الجيش والإخوان المسلمين على رفض البدء بإعداد الدستور. وبعدها نبدأ في تكوين المؤسسات الأخرى وإجراء انتخابات البرلمان والرئاسة. هذا المسار الذي حاولت قوى الثورة تصويبه على مدى أكثر من عام منذ استفتاء "غزوة الصناديق"، وكانت هذه المحاولات تواجه بالرفض من جانب الإخوان والسلفيين، ليدفع الجميع في النهاية الثمن ونصل إلى موقف أسوأ من العودة لنقطة الصفر.. فعند نقطة الصفر (مع سقوط النظام السابق) كانت قوى الثورة موحدة على المبادئ العامة للتغيير، وكان الطريق مفتوحاً لبناء النظام الجديد الذي يحقق أهداف الثورة. أما الآن، فالجراح كثيرة، والصفوف مقسمة، والثورة مستنزفة، والمواطن العادي متعب، وانتخابات الرئاسة (إذا تمت بخير) لن تنتج إلا رئيساً ينقسم عليه المجتمع، وأوضاعاً قابلة للانفجار في أية لحظة. أيام صعبة تواجهها مصر.. لم تكن مصر يوماً ما بهذا الانقسام المجتمعي الذي يشقها بالطول والعرض. الأخطر من صدام الجيش مع أي فيصل، هو هذا الشق لصفوف المجتمع. في المواجهة الأخيرة وأثناء تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور للمرة الثانية، بعد أن أبطل القضاء التشكيل الأول، كانت هناك كارثة ربما لم تسلط عليها الأضواء بما فيه الكفاية. في الوقت الذي كان الإخوان والسلفيون يسابقون الزمن، لتشكيل اللجنة قبل صدور الأحكام المنتظرة بحل البرلمان. وفي الوقت الذي كان المجلس العسكري يهدد بإصدار تعديلات دستورية لضمان تشكيل اللجنة إذا لم يتم التوصل لذلك. وفي الوقت الذي كان المفترض أن يكون البحث عن توافق هو المطلوب استعداداً لأي مواجهة منتظرة.. إذا بتشكيل اللجنة يأتي على أساس تقسيم المجتمع إلى نصفين؛ نصف للقوى الإسلامية، ونصف للقوى المدنية! وإذا كان مفهوماً أن تسعى الأحزاب الإسلامية (الإخوان والسلفيون) لضمان أكبر نصيب في عملية وضع الدستور، فمن الغريب حقاً أن ترضخ الأحزاب والقوى المدنية لمبدأ التقسيم الطائفي لمصر.. بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر! في ظل هذا الانقسام تتفاقم الأزمة التي لم تجد حلاً للأسف الشديد مع أيٍ من المتنافسين على الرئاسة. ولن يكون الحل إلا بالعودة للمسار الصحيح، بفترة انتقالية حقيقية يتولى فيها المسؤولية رئيس توافقي أو مجلس انتقالي، يبدأ بوضع الدستور كما كان المفترض من البداية، ويضع البلاد أمام خريطة طريق واضحة المعالم، بدلاً من التخبط والارتباك والصفقات المشبوهة التي حكمت مسار الأحداث منذ الثورة. لا أعرف كم ستدفع مصر من التضحيات حتى تعود للسير على هذا الطريق الذي لا بديل عنه للخروج من الأزمة، ولكن حتى ذلك يبقى الأمل في أن تبقى الثورة كما بدأت سلمية، وأن يبقى الصراع محكوماً بالتزام كل الأطراف بعدم الانجرار نحو العنف أو المواجهة غير السلمية.. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية