تتوجت العلاقات المصرية الفرنسية بالزيارة التاريخية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقاهرة والتي تستغرق ثلاثة أيام، في نهاية يناير الجاري، ليستحضر الرئيس الفرنسي علاقات تاريخية وأواصر صداقة يمتد عمقها إلى مئات السنوات مع مصر، الدولة الكبيرة من حيث عدد السكان والأكثر محورية في صناعة القرارات بمنطقة الشرق الأوسط. واستهل الرئيس الفرنسي زيارته لمصر بزيارة معبد أبو سمبل، وهي زيارة رمزية جدا وتنم عن حفاوة الفرنسيين بالتاريخ المصري القديم واحتفالا بالذكرى الخمسين للتعاون الفرنسي مع مصر، في انقاذ المعبد من الغرق تحت مياه النيل منذ أكثر من 50 عاما. ويعود الولع الفرنسي بالحضارة والثقافة المصرية إلى عهد عالم المصريات وملك اللغة الهيروغليفية جان فرانسوا شامبليون الذي فك رموز الحضارة المصرية القديمة على حجر رشيد، ومن وقتها، تغير تاريخ مصر وإنكشفت أسراره العتيقة. ولهذا لم يكن مستغربا أن يطلق الرئيس السيسي على عام 2019، "عام الثقافة الفرنسية في مصر". وتجتمع فرنسا ومصر على نقاط شبه متطابقة على نطاق الملفات والقضايا المحورية في المنقة مثل قضية الارهاب والهجرة غير الشرعية والملف الليبي والسوري والعلاقات مع إفريقيا. في هذا الإطار، أجرت بوابة الوفد حوارا مع "خالد شقير"، رئيس جمعية مصر فرنسا والصحفي بالإذاعة الفرنسية وعضو الوفد المرافق للرئيس ماكرون خلال زيارته للقاهرة. ما هي دلالة توقيت زيارة ماكرون لمصر؟ وكيف ترى بداية الزيارة من أسوان في معبد أبو سمبل؟ الرئيس ماكرون فضل الالتزام بموعد القمة المصرية مع الرئيس السيسي وعدم التأجيل أو الالغاء بالرغم من أنه اعتذر عن حضور قمة مجموعة الدول الثمانية وزيارة لبنان، وهو ما يدل على مكانة مصر في قلب فرنسا. وذلك يعود لعدة أسباب، أولا أن مصر تعتبر شريك اساسي في محاربة الارهاب والهجرة غير الشرعية. ماكرون رئيس ذكي ومختلف، ولذلك بدأ رحلته من أسوان، خاصة أن مصر كانت وجهة عطلة رأس السنة للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران. ودلالة ذلك تشير إلى اعتبار الرئيس السيسي عام 2019 "عام الثقافة الفرنسية" وأن مصر في قلب جميع الفرنسيين. وهي رؤية جديدة لرئيس فرنسا يؤكد فيها على رسالة تكامل الحضارات وأن دول شمال المتوسط تحتاج لعمل جسور تواصل جديدة مع دول البحر المتوسط. إلى أي مدى تسيطر قضية حقوق الانسان على خطاب فرنسا مع مصر، خاصة في ظل ظهور قضايا وملفات أكثر حساسية تتداخل مع ملف حقوق الانسان منها مكافحة الارهاب واستعادة أمن واستقرار المنطقة وقضايا الهجرة غير الشرعية؟ فرنسا تعتمد على مصر بشكل اساسي في محاربة الارهاب، بوجود القوات البحرية وسلطات الأمن المصرية في منطقة جنوب المتوسط. لذا، فإن فرنسا تدرك جيدا حجم التحدي الذي تواجهه مصر ودول العالم في دحض الإرهاب وتجفيف منابعه. وتحذو فرنسا حاليا حذو مصر في تجديد الخطاب الديني في الداخل بعدما تم إبعاد بعض الأئمة في فرنسا بسبب دعواتهم المتشددة. ومن المعروف أن قضية حقوق الانسان، هي محل اهتمام الاعلام الفرنسي ومنظمات المجتمع المدني وليس الشارع الفرنسي، ولاحظت من خلال زيارات رؤساء دول أجنبية لفرنسا، أنه يتم الزج بأسألة هدفها إحراج الرئيس الضيف والرئيس ماكرون. وكان قد صرح الرئيس ماكرون خلال زيارة الرئيس السيسي الأخيرة لباريس بقول لا ينسى في هذا الشأن: "كل دولة أولى بحل مشاكلها الداخلية وأن فرنسا لا تتدخل في شؤون الغير ولا تعطي دروسا". ولكن ما يحدث أن تلك القضية تطرح نتيجة ضغط من قبل اعلام فرنسا ومحاولة استرضاؤه، حيث تدين الدولة الفرنسية بمجموعة قيم تحاول التمسك بها في المحافل الدولية مثل قضايا المساواة بين الرجل والمرأة وأصحاب الديانات المختلفة. والدليل على ذلك أن ماكرون وقع في فخ "ضغوط المجتمع المدني" و"مراكز القوى" في فرنسا بفتح هذا الملف خلال زيارته الحالية لمصر، لا سيما ان بلاده تمر بأسوأ الظروف السياسية من حيث احتجاجات السترات الصفراء التي تعامل الأمن خلالها بشكل انتهك حقوق الانسان مباشرة من ضرب وسحل وامتهان للمواطنين المتظاهرين. ويحتسب للرئيس عبد الفتاح السيسي الرد بصورة قوية ومتزنة على هذا الأمر المرفوض من حيث التدخل في شؤون الدول الخارجية، على عكس ما قامت به دول مثل الولاياتالمتحدة وروسيا وإيطاليا، التي تم استدعاء سفيرها في باريس للرد على تدخل روما بالشأن الداخلي الفرنسي. ومن الشواهد القاطعة على خضوع ماكرون لمراكز قوى في فرنسا هو تصريح وزير البيئة الأسبق "نيكولاس هولو" الذي صرح بأنه لن يستمر في منصبه "لأنه لا يريد خداع الفرنسيين"، خاصة بعد تخبط الرئيس ماكرون وسط مجموعة قرارات مضادة لوزارة البيئة وقتها. ماذا تتوقع فرنسا من مصر بعد إنجاز مهمة الاصلاح الاقتصادي.. كيف سيكون شكل العلاقات السياسية والتجارية ؟ تصدر الجانب الاقتصلادي مشهد زيارة الرئيس ماكرون لمصر وظهر هذا جليا من خلال حضور لفيف من رجال الأعمال ومديري كبرى الشركات الفرنسية إلى مصر. يرى الجانب الفرنسي أن مصر مشروع دولة تبشر بالنمو الاقتصادي والدليل أن مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاجارد، أشادت بالانجاز الذي حققه الاقتصاد المصري. ويحتفي التلفزيون الفرنسي بمشروع العاصمة الادارية الجديدة في مصر واعتقد أن الجانب الاقتصادي مع مصر سيزدهر من خلال التعاون في مجالات التنمية والنقل والصحة وتكنولوجيا المعلومات. وتأتي الزيارة تشجيعا للسوق الفرنسي بالانضمام للسوق المصري الواعد ودعوة صريحة لأهمية الشراكة مع مصر. وعلى الصعيد السياسي، فرنسا تراهن دائما على مصر وقدراتها في ضبط الايقاع الأمني في المنطقة والقضاء على مافيا تهريب البشر في جنوب المتوسط وظهر هذا جليا من خلال زيارة رئيس الاستخبارات الفرنسي لنظيره في مصر العام الماضي. ما مدى تأثير فرض العقوبات الثانوية على الشركات الفرنسية في ايران وما هي فرص مصر في تعويض هذه الفجوة في ضوء العلاقات التجارية المترسخة بين مصر وفرنسا؟ تتعرض دول فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي لضغط بعد فرض الولاياتالمتحدة عقوبات ثانوية على الشركات المتعاملة مع إيران اقتصاديا وهو ما أضاع كثير من الأموال على هذه الشركات بعد عقد صفقات كبرى، وهو ما دفعها للبحث عن بدائل للخروج بخسائر أقل من خلال إيجاد سوق اخر للاستثمار وهو ما ستوفره مصر من تعويض الخسارة وتوجيه تلك الاستثمارات للجانب المصري الذي سيستفيد أيضا من خبرة تلك الشركات. ولهذا أحضر ماكرون أكثر من 24 رجل أعمال فرنسي يمثلون كبرى الشركات الفرنسية للاستثمار في مصر، كما سيكون هناك عدد من المشروعات الصحية والتعليمية وتحويل مصر لدولة فرانكوفونية خاصة أن هناك صراع ضد اللغة الفرنسية في افريقيا، كما ستعزز الزيارة العلاقات مسار مشروعات البنية التحتية والنقل. ماكرون كرئيس شاب، يسعى لاكتساب الخبرة وحل أزماته الداخلية .. إلى أي مدى ستدعم زيارة مصر موقفه في الداخل الفرنسي وتعزز تواجد فرنسا في منطقة دول البحر المتوسط وفي مناطق التأثير بالشرق الأوسط وما مدى احتمالية أن تكون هذه الزيارة تطويرا لعلاقات باريس الخارجية؟ الرئيس الفرنسي هو بالتأكيد رئيس شاب ولكن لا يجب ان ننسى دور وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، وهو رجل سياسي مخضرم وهو مهندس الدبلوماسية الفرنسية ويمتلك مفاتيح كثير من الملفات والمهارة ويعرف جيدا أهمية الدور المصري في شمال وجنوب المتوسط وأعتقد ان ماكرون سيستفيد من خبرة وزير خارجيته كما سيستفيد من خبرة الرئيس السيسي في ايجاد خط موازي له في دول الشرق الأوسط يهدف لتطوير العلاقات بين الدولتين. مصر أصرت على تنفيذ برنامجها للاصلاح الاقتصادي بينما تراجعت فرنسا بعد موجة الغضب الأخيرة وسبقتها في خوض التجربة؟ هل سيكون لهذا تأثير على قرارات ماكرون المستقبلية في تغيير اصلاحات الاقتصاد؟ بالطبع ثقافة وظروف المواطن الفرنسي تختلف عن ثقافة المصري، والاقتصاد المصري ليس بقوة الاقتصاد الفرنسي، ولكن لا بد أن يعترف الرئيس ماكرون أن مصر اتخذت خطوات جريئة راهنت فيها على صلابة الشعب المصري لتحقيق التغيير الاقتصادي المرجو. الأمر في فرنسا مختلف، حيث تعتمد على فرض ضرائب كبيرة جدا على الشعب، بينما لجأت مصر فقط لرفع الدعم عن بعض السلع والخدمات. خالد شقير، رئيس جمعية مصر فرنسا وصحفي بالإذاعة الفرنسية مصر وفرنسا يديرون الحوار في ليبيا ويدينون بوجهات نظر متقاربة بشأن القضية الفلسطينية ويتفقون بشأن الحل السياسي في سوريا ..كيف ترى التقارب المصري الفرنسي بشأن هذه الملفات المهمة للمنطقة؟ عن القضية الفلسطينية، أشادت فرنسا بتحقيق مصر للمصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين، حركتي فتح وحماس، على أرض القاهرة، رغم كل ما يحدث في شمال سيناء وأبرزت وسائل الاعلام الفرنسية هذا الدور، كما تتفق باريس مع القاهرة على رفض نقل السفارات الأجنبية إلى القدس والوصول لحل الدولتين. وعن ملف سوريا، تغيرت المدرسة الفرنسية وتوحدت في الرؤية مع مصر ببقاء الرئيس بشار الأسد، على عكس الرئيس الاسبق فراسنوا أولاند، كما تتفق باريس مع القاهرة على أن تركياوإيران يحاولون افساد سبل الحل في الملف السوري. أما عن ليبيا، هناك تنسيق بين مصر ودول الجوار وتونس والجزائر ومع فرنسا أيضا، وترفض مصر أن يدفع الشعب الليبي ثمن خلافات الدول الأجنبية على الساحة الليبية، حيث تتعامل مصر مع هذا الملف بذكاء شديد وحنكة واعتقد ان الخارجية المصرية بناءا على توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي تعاونت مع الجانب الفرنسي الذي أبدى رغبة حقيقية في جمع الفرقاء الليبيين في باريس. وأبدى الرئيس ماكرون رغبته في أن تتم انتخابات رئاسية في ليبيا في نهاية العام الماضي، خصوصا مع دخول ايطاليا على خط المفاوضات ورغبتها في التنافس مع فرنسا كأحد أطراف الحل في ليبيا.