جلست «نعمة» ذات الرداء الأسود البالى سوداء تبكى بحرقة يلتف حولها أطفالها كما لو كانت المدفأة فى هذا الصقيع لفقدانها زوجها غرقاً فى البحر أثناء رحلته الأخيرة كان صياداً بسيطاً يذهب للبحر باحثاً عن رزقه ولكن كانت هذه آخر رحلاته.. بعدما قام الجميع بتعزيتها تركوها مع أولادها الثلاثة وحيدة لم ينم حزنها ولم ترتح نفسها فلم تكن تملك غيره فى هذا العالم البارد كيف ستواجه العالم وحدها مع هؤلاء الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة موت زوجها كان بمثابة الموت لها هى أيضاً لها، ومرت الأيام وأخذت تستجمع قواها وتفكر فى العمل حتى تستطيع أن تطعم أطفالها وجدت نفسها خادمة بالبيوت تنظف وتجلى وتفعل كل ما يطلب منها مقابل بعض النقود لشراء الطعام لهؤلاء اليتامى والعودة للمنزل منهكة القوى منكسرة النفس، أكبرهم «صابر» ذو العشر سنوات والصغيرتان لم تكملا الثلاث سنوات.. لم تكن تعلم أنها تنشئ طفولة معذبة فاقدة لمظاهر البراءة كانت تعتقد أنهم أطفال لا يملكون الوعى الكافى ليحزنوا ويرفضوا تلك الحياة البائسة ولكن «صابر» كان ليس مجرد طفل كما تراه والدته، فعشر سنوات كافيه ليتكون لديه إدراك ووعى كامل بالعالم من حوله.. كل يوم بعد عودة والدته ينظر لها دون الإفصاح عما بداخله، فكلما كان يراها عائدة من رحله العمل الشاق فى منازل الأغنياء منهكة القوى فاقدة الروح شاحبة الوجه تتكئ على الجدران من أوجاع جسدها الضعيف كان يتألم من رؤيتها ذليله معذبة هكذا يشعر وكأنما طعن بسكين حاد فى قلبه. ظل الحال هكذا عشر سنوات، مرت السيدة وأطفالها، وتمكن «صابر» من إتمام دراسته وحصوله على دبلوم تجارة وقرر أن يعمل لمساعدة والدته فى الإنفاق على شقيقتيه لتكملا دراستهما كما كان يحلم والدهم، عمل «صابر» سائقاً ولكن للأسف لم يكن أجره اليومى يحقق له حلمه الذى يسعى إليه وهو أن يعوض والدته وأسرته، كان «صابر» دائماً ساخطاً على حظه ويسأل نفسه لماذا لم يكن مثل باقى الناس يعيش حياة مرفهة ويسكن فيلا، شرد بتفكيره إلى أبعد من المسافات، قرر أن يتوجه إلى أكثر من عمل برواتب أعلى ولكن للأسف جميع المحاولات كانت نهايتها الفشل نظراً لمؤهله المتوسط، ظل «صابر» ناقماً على حالهم جميعاً يطمح للخروج من تلك الحارة التى يعيش فيها لينال حياة تستحق أن يعيشها المرء بحلوها ومرها معا لا مرها فقط، فلم يكن يلقى اهتماماً سوى فى مقتبل العمر لتحقيق ذاته وتحسين تحصيله الدراسى الذى كان يتدنى شيئاً فشيئاً حتى حصوله على الدبلوم بصعوبة، كلما كبر كانت تزداد المسئولية الملقاة على عاتقه كالإنفاق على أسرته بعدما مرضت والدته ولم تعد تعمل بالمنازل.. استفاق «صابر» من تفكيره العميق بحياته وكل هذا العذاب على صوت السيارات الذى كان يثقب أذنه وهو يعبر الطريق تائهاً بلا تركيز، وتوجه إلى إحدى الشركات لعمل المقابلة، وأثناء إجراء المقابلة الشخصية معه سُئل عن خبرته فى المجال فصارح صاحب العمل أنه لم يعمل إلا سائقاً، ولكن لديه أسلوب إقناع فريد من نوعه فهو يستطيع إقناع العملاء بأى شىء مهما كان، وأن لديه أسلوبه الخاص فأعطاه صاحب العمل فرصة ليختبر قدراته وقال له عن مهمته المطلوبة وغادر «صابر» عائداً مسروراً سعيد القلب كما لو كان قبل للعمل بمؤسسة عالمية، أخبر والدته وشقيقتيه فور وصوله أنه بدءاً من غد سيكون أول يوم له بالوظيفة ذهب صباح اليوم التالى إلى المكان المطلوب منه الذهاب إليه وهو أحد الأبراج المنشأة حديثاً التى سيقوم بالتسويق العقارى لها وفعلاً عمل بحماس وجهد لم يكن يقنع العملاء لأنه يريد أن يثبت نفسه لصاحب العمل فقط وإنما كانت الوظيفة بمثابه أداة إنقاذ ونجح فى إقناع العديد من العملاء واستطاع إثبات ذاته من أول يوم وانقضت الأيام وأتم شهراً واستلم أول مبلغ نقدى من وظيفته هذا المبلغ البسيط ليتدبر به حاله وحال أهله بأى شكل وأخذت الشهور تمر ويرى «صابر» أماكن جديدة ويختلط بالأغنياء أبناء الطبقة الأرستقراطية، وساعده بذلك مظهره الحسن كان شاباً وسيماً لا يملك غير هذا الوجه الجميل الذى لا يستطيع أى أحد أن يفسر ملامح الحزن العميقة الدفينة به كانوا يعتقدون أنه ابن أحد الأثرياء لتواجده فى أماكن راقية.. أصبح يعود يومياً إلى المنزل كارهاً له ولتلك الحياة البائسة فهو يريد الحياة التى يذهب إليها نهاراً فأصبح يفكر ويفكر كيف يصل لهدفه فوظيفته هذه لن تفعل له شيئاً وأصابه الأرق وأصبح لا يستطيع النوم، ومن هنا بدأت رحلته مع السهر.. كان يسهر ليلاً على شاطئ البحر يشاهد المحبين وسيارات الأغنياء واليخوت الضخمة وكل شىء لا يملكه هو ولا يجد من يشكى له همه من هؤلاء فلن يفهموه، فلم يجد من يشكى له همه سوى أبناء حارته البائسة لأنهم مثله يمرون بنفس الحال وأصبح يسهر يومياً فى المنطقة على أعتاب البيوت مع بعض شباب المنطقة البائسين الذين بلا عمل فكان منهم الذى يتعاطى مخدرات والآخر سارق ومجرم فأصبح يستمتع بالاستماع إلى أحاديثهم عن سرقة الأغنياء وأخذ كل ما يملكون وأصيب بتفكير شيطانى يجمع بينه وبينهم فهو لديه المخطط والعقل الشيطانى وهم لديهم الخبرة والمعلومات، وبدأ يخطط لينفذوا عمليات سرقة فى مناطق قريبة منهم وقاموا بالفعل بسرقة الشقق والمحلات وبعد ذلك أصبح لديه المال الذى يكفيه لينتشل أهله من مستنقع الحياة البائس هذا والعيش وسط المدينة حيث يكون النعيم كما يهيئ له، انتقلوا للعيش فى شقة تتناسب مع عددهم وترك وظيفته وبدأ بخطة جديدة وهى أن يختار مظهراً معيناً ليظهر به كرجال الأعمال فاشترى أرقى الثياب وبدأ يتردد على نوادى أولاد الذوات ويتعرف عليهم ويكون صداقات معهم وأصبح لديه أصدقاء أغنياء يذهب إليهم مرتدياً قناع شخصية ليست له كان يدعى أنه ابن أحد رجال الأعمال المشهورين، وأن والده توفى تاركاً له ثروة كبيرة من هنا استطاع التعرف على العديد من الفتيات وإقامة علاقات قوية معهن يعرف من خلالها كل شىء عنهن وعن ممتلكاتهن من قصور وبيوت وسيارات ومجوهرات وكل شىء يريده، وهنا قام بتوسيع فى التشكيل العصابى وخطط على مستوى أعلى مما سبق أصبحوا يقومون بالعديد من السرقات لمنازل وقصور هؤلاء الأغنياء الذين يعتقدون أنه صديق لهم فقد كان يحضر حفلاتهم ليلاً ويخطط لسرقتهم نهاراً ولم يكن يعلم أحد كيف كان يستطيع السارق الوصول لكل هذه المعلومات لا يعلمون أنه بينهم أصبح يضع الخطط بمنتهى السهولة فهو يعلم كل شىء عن تلك المنازل بما فيها من كنوز وعن مواعيد تواجدهم ومواعيد سفرهم وكل من بالمنزل، وذلك ساعدهم بشكل كبير جداً، وفى يوم ما تعرف بفتاة أثارت انتباهه كثيراً ونالت إعجابه بقوة وأصبح قلبه يدق لها وهى بادلته الشعور ونشأت بينهما قصة حب وأراد أن يتزوجها وبالفعل تقدم لها ووالدها رجل الأعمال لم يهتم لأصل هذا الشاب ولكن وافق فور معرفة ما لديه وما سيقدمه لابنته وتمت الخطبة ولكن لم يكتف من خطته الشيطانية ولم يتوقف عما يفعله حتى جاء اليوم الموعود يوم زفافه كان بأبهى حالاته يتوهج من شدة السعادة أسعد رجل بالعالم فلقد تحقق حلمه أخيراً استطاع العيش بين الأغنياء ويتزوج منهم فتاة يحبها وانطلقت الموسيقى ليصعد العريس والعروس للمسرح وفى لحظة سعادة لا توصف يدور ويتراقص كأنه بحلم توقفت الموسيقى فجأة فتح عينيه ليصحو من حلمه الجميل على واقع مرير ليرى الشرطة تحاصر المكان والكل ينظر فى صدمة ولا أحد يعلم ما حدث شعر وكأنما توقف قلبه ولم يستطع تمالك نفسه من شدة الصدمة فأخذ نفساً عميقاً وسألهم عن سبب توجدهم وكيف لهم أن يقتحموا قاعة مناسبات أثناء زفافه بهذا الشكل وكان الرد أنه مطلوب القبض عليه، وأن كل من معه تم القبض عليهم واعترفوا عليه بين نظرات التساؤل من الجميع ونظرات الحزن من أهله ونظرات العروس باكيه ذهب بخياله بعيداً ليستعيد مشهد رؤية والدته عائده للمنزل منهكة شاحبة الوجه ذليلة وكم كان يريد أن يراها مثل سيدات المجتمع تلك، وكم كان يريد التخلص من حارة الأعرج التى تشبهه تماماً فى مسيرة حياته، وأن الحياة قاسية حين تذكر مشهد أخوته وهم يبكون جوعاً تذكر رؤيته للأغنياء يجلسون بالمطاعم ويتجولون بالمحلات الراقية التى لم يستطع الدخول لها من قبل أعاد سيناريو حياته كلها أمامه كأن كل ما حدث وهو صغير يحدث الآن شعر بندم كبير على ما وصل له فلقد فقد قلبه ومات من زمن بعيد حتى أصبح لا يخاف الله ولا يفكر بأفعاله وبالمال الحرام الذى يعيش منه وعلم فى هذه اللحظة أن شيطان النفس أسوأ من أى شيطان آخر، وأن طريق الحرام نهايته الهاوية.