ابتسامة دافئة.. وقليل من العتاب.. استعادة أمل توارى خلف سنوات مضت تاج أبيض على كل رأس تضفى بريقًا على ملامح الوجه.. هنا.. ربيع العمر.. يبحث عن زهوره.. هنا الذكريات تمثل للمحاكمة.. وهنا.. استبدلوا بيت العيلة ب«دار الصحبة الطيبة».. دور المسنين.. تبحث عن عنوان جديد لما تبقى من سنين العمر.. فى إحدى دور المسنين بالسيدة زينب كنا نبحث عن الحلقة المفقودة عن حل المعادلة الصعبة.. الدفئ خارج جدران «عشرة العمر».. هل من الممكن أن يتحقق حلم «العجائز» فى رحلة لبداية جديدة؟ هل من الممكن أن نجد «الطبطبة» مكافأة لشقاء السنين.. .. فى عيونهم وجدنا عشرات الأمثلة وإجابة واحدة.. نعم ممكن. هنا حيث تقيم «عفاف أحمد متولى»، البالغة من العمر «65 عامًا»، ليس لديها أبناء أو أقارب يسألوا عنها، وقد أكملت عامها ال11 داخل الدار، وهى تعيش مثل غيرها فى انسجام وأمان وحرية تامة، وتقضى أغلب الأوقات بصحبة صديقتها «نادية»، وعندما يحل الليل تذهب لتنام فى السرير المقابل لها. وقالت «عفاف»: «أنا كل اللى عاوزة الصحة والستر، وعمر بس لغفران الذنوب، وإتمام الطاعة والعبادة لله، وهو كل ما أريده من الحياة». الأمل والتفاؤل ظهر على وجه الحاجة «سلمى مسعود السيد» وهى سيدة مسنة تجاوزت التسعين من عمرها، مبتسمة وخجولة تجد كلامها قليلًا مع الأشخاص المتعاملين معها، فقد شاهدتها تغنى، وعندما انتهت من الغناء جاءت لتعانقنى، وهى تستمع باهتمام إلى حديثى مع مديرة الجمعية عن دورهم التكافلى والتضامنى فى خدمة كبار السن. حال المسنة «سلمى» لم يختلف كثيرًا عن النزيلات الآخريات اللاتى يتمتعن بحقوقهن كاملة، من عناية واهتمام فائقين من قبل المسئولين بدور رعاية المسنين، لكنها الوحيدة التى تقيم فى دار الضيافة المجانية التابعة للجمعية، نظرًا لعدم وجود عائل لها أو مصدر دخل ثابت يمكنها من العيش بأمان بمفردها. سلمى تخطت التسعين من عمرها.. تبدو على وجهها علامات الرضا والسعادة: «بنتى سونة وابنى سعيد، وصديقاتى المسنات.. كلهم بيحبونى.. وأنا مبسوطة هنا جدًا.. وهديتى ليهم هى الغناء، لأنى بحب سماع الموسيقى والأغانى المتنوعة، وكمان عاوزاهم دائما سعداء ومتهنيين». بابتسامة عريضة ودقات قلب رنانة قابلتنا «زينب محمد»، التى تجاوزت ال70 عامًا، ولديها «شابان»، وكأن برؤيتها لنا تحقق أملاً كبيراً كان بعيدًا، وحكت لنا عن قصتها المأسوية، بعد وفاة زوجها، وتحملها مسئولية تربية ولديها، والسهر والتعب من أجلهما، واستكمال مشوار تعليمهما وزواجهما، ومع ذلك رفضت أن تكون عبئًا عليهما، واختارت أن تعيش فى هذه الدار، وشيئًا فشيئًا تعودت عليها، وضميرى ارتاح. لتنضم لعدد كبير من النزيلات اللاتى تحملن مصاعب الحياة وظروفها القاسية، ولا يقبلن أن يكن عبئًا مثقلا على أولادهن وأهلهن، ولكن وجدن أنفسهن فى مجتمع أكثر أمنا ورفاهية داخل الدار. وقالت فى عجالة : «أتذكر دخولى دار رعاية المسنين عام 2007، واقمت فيها مدة 11 عامًا، أمشى جنب الحيط»، لكننى أحببت الدار بمشرفيها ومديرتها رقيقة القلب.. فأنا أعيش فى هدوء وسكينة ومعاملة إنسانية تتجلى بأبهى صورها.. «كل حاجة حلوة فى الدار»، وخدمات كثيرة تقدمها للمسنين من كلا الجنسين، مثل الرعاية الصحية والبرامج الترفيهية وغيرها من الخدمات المفيدة». فى زاوية قريبة من صديقاتها فى الدار جلست «عواطف السيد»، البالغة من العمر «71 عامًا»، لديها «3 أبناء»، مقيمة إقامة دائمة فى الدار منذ 11 سنة. وتروى ل«الوفد» حكايتها.. فتقول: فى البداية لم أكن أنوى إقامة طويلة داخل الدار، لكننى وجدت الخدمة المتميزة من اهتمام ورعاية، ومنحى الحب والراحة التى أبحث عنهما، والصحبة الدائمة، والمشاركة فى جميع الأنشطة التى تساعدنا على التغلب على شعور الاكتئاب والعزلة.. فنجد أطباء متخصصين وممرضة الدار، الذين يقدمون لنا الرعاية والاهتمام بجميع أشكالها، من خلال الاعتناء بالتغذية السليمة عن طريق تقديم 3 وجبات يوميًا، والصحة النفسية والجسدية بالكشف الدورى علينا، بخلاف زيارة النوادى والرحلات الشهرية، وتقديم أفضل الهدايا لنا، وقضاء «أحلى الأوقات»، كل ذلك بناء على تعليمات من المستشار سعيد عبدالوهاب الأمين العام للجمعية وهو رجل حنون على جميع نزلاء الدار، بالإضافة إلى أن أبنائى يداومون على زيارتى فى الدار والاطمئنان على أحوالى ومتابعة صحتى باستمرار، وتأمل فى تحسين خدمة صرف المعاشات الإلكترونية لخدمة كبار السن. روحية أحمد، عمرها 65 عامًا، هى سيدة هادئة ومثقفة ومحبوبة من كل العاملين فى دور رعاية المسنين، تميزت بابتسامتها التى تشرق كل صباح داخل الدار، والقراءة فى شتى المجالات هى جزء من هويتها. «روحية» ابتسمت، وقالت: «أحب قراءة القصص والروايات بأنواعها لكبار الأدباء والكتاب أمثال إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ وغيرهما من الأدباء والمثقفين والنقاد، لأنها تزيد الحياة عمقًا، وتجعلنى أشعر بالسعادة والأمل فى غد مشرق، كما أن الحياة أفضل كثيراً فى الدار، رغم أنه بقى لى أخت واحدة كبيرة فى السن تعيش الآن مع أسرتها الصغيرة داخل القاهرة، لكن المناخ داخل الدار ملىء بالحب والبهجة والتشجيع، وتقديم كل الخدمات وتنويع الأنشطة، لتتكامل الواجبات وتنتج حياة كريمة لجميع المسنين». مديرة الدار: نهتم بالصحة النفسية للنزلاء.. والرحلات والمصايف أساسية كبار السن هم «بركة الحياة» وقاسوا كثيرًا طوال حياتهم، ولكن الكثير منهم لم يجدوا التقدير والأمان الأسرى، ولا يقبلوا أن يصبحوا عبئًا على أحد حتى لو كان «الابن أو الابنة»، لتضطرهم الظروف إلى البحث عن مأوى آمن ليحتضنهم فى مرحلة الكهولة، بعد أن وصلت أعدادهم ل6 ملايين مسن أى تقدر نسبتهم بنحو 7% من إجمالى السكان. وهنا فى دار رعاية المسنين «الجمعية الخيرية الإسلامية»، الموجودة بمنطقة السيدة زينب، وتضم 25 رجلًا وامرأة بلا عائل، تبدو الصورة مختلفة، حيث يحتفل المسنون والمسنات بعام 2019، الذى يحمل فى طياته كثيرًا من الآمال والتطلعات لكونهم يستحقون التقدير والتكريم فى ربيع العمر.. آباء وأمهات وأجداد وجدات اشتعل رأسهم شيبًا.. شركاء البناء والصمود جاءوا طواعية للدار.. يعيشون عالمهم الخاص برؤية مشرقة.. الدفء يغمر قلوبهم.. والسعادة تغطى وجوههم.. ويمنحون الحب والاحترام والتقدير، ما يساعدهم على قضاء بقية حياتهم بكرامة، وهو ما يأتى توافقًا مع اتجاه الدولة للحرص على رعاية كبار السن ودمجهم فى المجتمع، ومطالبات بإنشاء «مجلس أعلى» لتيسر الإجراءات لهم فى كل المصالح والخدمات العامة، بما يكفل حقوقهم فى حياة أكثر رفاهية وطمأنينة، واعترافًا بما قدموه للمجتمع من خدمات، والتزامًا بالمادة «83» من دستور 2014. تحدثنا مع سونة ممدوح محمد، «مديرة الجمعية».. وسألناها عما يفعلونه مع كبار السن؟.. قالت لنا: «نحن عائلة واحدة تضم 25 نزيلًا منهم 16 رجلًا، فى حين بلغ عدد النساء 9 مسنات، جميعهم قادرون على خدمة أنفسهم، ولدينا 9 موظفين و10 عمال وعاملات لخدمة النزلاء». مضيفة أن عددًا بسيطًا من أقارب ومعارف كبار السن يأتون لزيارتهم وتفقد أحوالهم، وتبادل الحديث معهم حول ظروف حياتهم ومعيشتهم. وأوضحت: أن أكبر الموجودين فى الدار يبلغ من العمر قرابة ال95 سنة وأصغرهم فى الستين من العمر، استعرضت مديرة الدار أقسامها التسعة والمهام المنوطة بكل قسم على حدة، حيث إن القسم الأول هو استقبال ودعم ومساعدة الحالة وإعادتها إلى حياتها الأسرية والاجتماعية ويأتى دوره فى تقديم الرعاية المتكاملة لكل حالة على حدة، وتحقيق وتلبية رغبات النزلاء، وخصوصًا المسنات، فى أن تجد كل منهن الراحة والهدوء الذى يبحثن عنه، والعمل على دمجهن بشكل جزئى أو كلى مع ذويهن. وذكرت أن أسعار الإقامة فى الجمعية هى الأقل عن باقى الجمعيات الأخرى، حيث تتراوح الأسعار بين 520 و800 جنيه، يتم تحصيلها شهريًا، مع دفع مبلغ 1600 جنيه رسوم تأمين لمدة شهرين، وتقدم الخدمة شاملة الإقامة، وتوفير وجبات غذائية، والاعتناء والاهتمام الدائم بحالة كبير السن الاجتماعية والنفسية والصحية تحت إشراف طبى وخدمة تمريضية مميزة، بجانب الرحلات الشهرية، والمصايف، وأيضاً تنظيم زيارات للأندية المختلفة، والندوات والمؤتمرات الثقافية. رئيس المنظمة الدولية لحقوق الإنسان: تكاتف الجهود مطلوب لتحقيق «التكافل الاجتماعى» السفير شاهر نور الدين، رئيس مجلس الوحدة العربية والتعاون الدولى، رئيس المنظمة الدولية للتنمية وحقوق الإنسان، يؤكد أن تقديم الرعاية الإنسانية لكبار السن، يجب أن يكون أولى مهام الدولة باعتبارها ضرورة وواجباً دينياً، ومصلحة وطنية، وتمس بالتأكيد قضايا المواطنة والتكافل والترابط الاجتماعى التى يطالب بها الجميع. مضيفاً أن المسنين يحتلون النسبة الأكبر من تلك الفئات المهمشة، الذين فقدوا أبناءهم لتعويض شعورهم بالحرمان المستمر، وحتى لا تتحول الحياة لديهم إلى نمط لا قيمة أو معنى لها، ما يجعل مسئولية المجتمع توفير احتياجات كبار السن، من مأوى آمن ورعاية صحية ووقائية وعلاجية وثقافية وترفيهية لكبار السن، ومعاش مناسب يكفل لهم حياة كريمة، وتمكينهم من المشاركة فى الحياة العامة، وتسهيل الخدمات المختلفة مع المؤسسات الخدمية مثل: دفع فواتير الكهرباء والتليفون، ونجدة المسن عند الضرورة. وأوضح- «رئيس المنظمة الدولية لحقوق الإنسان»- ضرورة توافر الرؤية والاستراتيجية المتكاملة والواضحة لرعاية كبار السن، خاصة أن هؤلاء المسنين يحتاجون إلى من يمسح دموعهم ويشعرهم بالآمان والعناية والاهتمام الفائقين وإزالة العقبات وشرور الحياة، وذلك عن طريق توفير مؤسسات للرعاية المتكاملة والعطف الدائم على كبار السن، مع الاعتناء بالتغذية والصحة النفسية والجسدية، وأيضاً توفير الأجهزة التى تمكنهم من التفاعل مع البيئة المحيطة بشكل إيجابى وفقاً لحالاتهم المرضية، مع أهمية وجود رقابة فعالة على المشرفين لمراقبة تصرفاتهم بشكل دائم، الأمر الذى يتطلب توافر مهارات ومعاملة ذات خصوصية معينة عند التعامل مع كبار السن، ومحاسبة كل المقصرين وصرفهم من الخدمة، أما من ثبتت نزاهته تتم مكافأته وترقيته، إضافة إلى نشاط «الابنة والابن» للعجائز فى جميع دور رعاية المسنين، بحيث يصبح للآباء والأمهات مجموعة من الأبناء يتحملون المسئولية مع الدار ومشاركتهم الإيجابية من أجل حياة أفضل، لكى يشعرون أنهم يعيشون وسط أسرهم يشاركونها المناسبات والاحتفالات كأى فرد عادى، وبما يؤدى لتحسين كل نشاطاتها الاجتماعية والنفسية والصحية والترفيهية التى يحتاجها كبار السن. وأشار- «رئيس المنظمة الدولية لحقوق الإنسان»- إلى أنه لابد من حضور قوى من جانب وزارة التضامن الاجتماعى بداخل إدارة دور المسنين، بحيث يتسنى لها المتابعة والتقييم وضمان حد أدنى من الأداء يكفل أمان وصحة ورعاية الملحقين بالدور، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى للمشاركة فى رعاية العجائز وكبار السن. مشدداً على أهمية وجود مجلس أعلى للمسنين يدافع عن حقوق كل مسن، ويكون هو الجهة المشرفة على منظمات المجتمع المدنى التى تهتم بفئة كبار السن، على أن يقوم بتنظيم وترتيب وتوزيع أى مبالغ أو تبرعات تأتى من الداخل أو الخارج لتلك الفئة، وأن يضم تشكيل المجلس ممثلين من كل الجهات والوزارات كالتضامن والعدل والمالية والصحة، ويكون مقره بالقاهرة، وتكون تبعية هذا المجلس لرئاسة الجمهورية، حتى لا يشعر المسن بالتجاهل والتهميش من جانب الدولة، وأيضاً حق المسن فى الجمع بين الراتب والمعاش، وكذلك تقديم رعاية طبية وعلاجية متكاملة لتلك الفئة، وتوفير الأجهزة التعويضية للمرضى بأسعار مناسبة، لأن كل مواطن له الحق فى العلاج، خاصة أن فى مصر نحو 6 ملايين مسن بنسبة 7% من مجموع السكان، الأمر الذى يحتاج عناية خاصة ورعاية متميزة.