ضربت المحكمة الدستورية الكويتية مثالاً رائعاً فى الحفاظ على الدستور وترسيخ الديمقراطية وعدم التعدى على السلطة القضائية وتغول السلطة التشريعية عليها. وذلك فى الحكم التاريخى والمسبوق الذى قضت به بعدم دستورية المادة 16 من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة الكويتى، والتى تنص على «ألا يكون إسقاط العضوية إلا بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس باستثناء العضو المعروض أمره»، مع ما يترتب على ذلك من آثار، ومطالبة المحكمة الدستورية لمجلس الأمة بتطبيق المادة 84 من الدستور، فى إشارة إلى إعلان خلو مقعدى النائبين جمعان الحربش ووليد الطبطبائى بعد فقدهما شروط العضوية واعتبارها باطلة، ومن ثم ضرورة إجراء انتخابات تكميلية فى الدائرتين الثانية والثالثة. ويعتبر حكم الدستورية هو أحد الأحكام التى جاءت بعد إقرار قانون الطعن المباشر من المجلس السابق، الذى أتاح لكل مواطن الحق فى اللجوء للمحكمة الدستورية مباشرة، ولولا هذا القانون لما تم الحكم بعدم دستورية المادة. يأتى ذلك فى الوقت الذى أكد فيه مصدر حكومى رفيع المستوى أن مجلس الوزراء ماض فى ممارسة مهامه، وأن لا صحة لما تم تداوله من شائعات عن (تغييرات كبرى) نيابياً وحكومياً، عقب حكم المحكمة الدستورية، وأشارت المصادر إلى احتمال إجراء تعديل وزارى سيشمل 4 وزراء من الحكومة الحالية، مؤكداً الحرص على استمرار التعاون البناء مع مجلس الأمة لتحقيق الأهداف المشتركة لخدمة الوطن والمواطنين. تصويب انحراف وأكدت مصادر كويتية أن المحكمة الدستورية صوّبت الانحراف الذى اعترى مسار العمل البرلماني، وصححت خطأ ارتكبه مجلس الأمة بالتصويت على إبقاء النائبين جمعان الحربش ووليد الطبطبائى المدانين فى جريمة بحكم بات ونهائي، المطلوبين لتنفيذه والهاربين خارج البلاد. وأن المحكمة وضعت بكل حزم وصرامة حداً لتغول السلطة التشريعية على السلطة القضائية. وفى لهجة شديدة وحازمة وصفت المحكمة فى حيثيات حكمها ما حدث من تصويت مجلس الأمة على إبقاء عضويتى النائبين الطبطبائى والحربش ب «التدخل السافر» فى أعمال سلطتها، مؤكدة أن المادة 16 تجعل الأحكام القضائية الباتة رهينة بمشيئة المجلس ما يعد تدخلاً فى أعمال السلطة القضائية وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات. تدخل ومساس وأكدت المحكمة أنه لا يجوز للسلطة التشريعية التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية أو المساس بالأحكام الصادرة عنها وتقويض آثارها أو إهدار حجيتها وإلا كان ذلك تعدياً على حقوقها واعتداء على ولاية واستقلال القضاء وتعطيلاً لدوره وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات بالمخالفة للمادة رقم 50. وقالت المحكمة إنه لا يجوز إضفاء حصانة على النائب تفضى إلى إخراجه من سلطة القانون، فالحصانة لا تعد امتيازاً، بل تقررت للمصلحة العامة. وأكدت أن الحصانة ليست مقررة لمواجهة أحكام القضاء، كما أنه لا ينبغى أن يذهب البرلمان فى استقلاله إلى حد التغول على اختصاصات باقى السلطات أو تتحول الحصانة إلى وسيلة لعضو البرلمان لخرق القانون وهو فى مأمن من المحاكمة أو الحساب أو الإفلات من العقاب. تميز مرفوض ورأت المحكمة أن استمرار عضوية النائب على الرغم من صدور حكم بعقوبة جناية يعد تمييزاً غير مقبول ومنهياً عنه من الناحية الدستورية، إذ جعلت تلك المادة عضو المجلس بمنأى عن إعمال أثر الأحكام القضائية الباتة عليه وتميزه عن غيره من المواطنين بالمخالفة للمادة 29 كما أضفت حصانة فى غير موضعها تعصمه من الخضوع للقانون. تباين وانقسام وكما هو معتاد فى مجلس الأمة الكويتى شهدت أروقة البرلمان الكويتى انقساماً وتباين ما بين مؤيد ومعارض، ورفض رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم التعليق على حكم المحكمة الدستورية وقال لن أعلق عليه، ولا أستطيع أن أعلق على هذا الحكم إلا بعد وصوله بشكل رسمي. وعبرت الأغلبية النيابية عن احترامها الكامل وتقديرها الشديد له بوصفه عنوان الحقيقة والكلمة الفصل فى القضية. واقتبس النائب أحمد الفضل العبارة التى أوردتها المحكمة فى حيثيات حكمها قائلة إن الحصانة ليست للعلو على القانون ولا مأمناً للإفلات من العقاب، وقال بأنها كلمات سيحفرها التاريخ فى ضمير الشعب، مذكراً الجميع بزمن تضخمت فيه ذوات الكثير من النواب حتى ظنوا أنهم هم الدولة، فجاء الحكم ليعلن رحيلهم وبقاء الدولة. وأكد النائب يوسف الفضالة أن الحكم يؤكد صحة عدم دستورية تصويت مجلس الأمة على عضوية النائبين، وأنه كان من المفترض عدم الاستناد إلى المادة 16 من اللائحة التى وصفت بأنها غير دستورية وضرورة الاستناد على المادة 18 المعنية بخلو المقعد والاستناد إلى المادة 84 من الدستور التى تؤكد أن على مجلس الأمة إعلان خلو المقعد، وهو ما أكده الحكم. ودعا الفضالة إلى إغلاق الثغرة المتمثلة فى المادة 16 من اللائحة، وأن يوضع لها حل من خلال المجلس أو مكتب المجلس يتناسب ويتسق مع الدستور لمواجهة مثل هذه الحالات فى المستقبل ولا تتعارض مع السلطات الأخرى. وفى الاتجاه ذاته قال النائب رياض العدسانى: إن الحكم يؤكد سلامة موقفه برفض التصويت على إجراء غير دستورى فيما يخص إخلاء مقعد أحد الأعضاء حسب نص المادة 84 من الدستور. تفريغ الدستور! وعلى الجانب الآخر سارع عشرة نواب إلى الاجتماع لبحث الخطوات المقبلة، وتنسيق المواقف وهم النواب الحميدى السبيعى ومحمد هايف وعبد الله فهاد وثامر السويط وخالد العتيبي، إلى جانب محمد الدلال وعبدالوهاب البابطين إضافة إلى عمر الطبطبائى وحمدان العازمي. وقال النائب الحميدى السبيعى بعد الاجتماع إنه من المؤسف الحديث عن إسقاط عضوية نواب، إذ يؤدى ذلك إلى تفريغ الدستور من محتواه، معتبراً أن إلغاء المادة 16 من اللائحة الداخلية سيمنع المجلس من بسط رقابته ووصفه بالأمر الخطير. تشكيك وذهب نواب الحركة الدستورية الإسلامية «الإخوان المسلمين» إلى أبعد من الاعتراض على الحكم بالإساءة إلى القضاء والتشكيك بأحكام المحكمة الدستورية، إذ اعتبر النائب محمد الدلال عضو الحركة الدستورية أن الحكم مخالف للدستور ومتجاوز للسلطة التشريعية، مشيراً إلى أن المحكمة أدخلت المجلس فى إشكالية قانونية. إعلان خلو وأكدت مصادر قانونية أن مجلس الأمة مطالب بإعلان خلو المقعدين فى أول جلسة تلى وصول الحكم رسمياً إلى المجلس. وأكد الخبير الدستورى أستاذ القانون العام فى كلية الحقوق بجامعة الكويت د. محمد الفيلى أن الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية أمس، هو حكم كاشف عن نهاية عضوية النائبين جمعان الحربش ووليد الطبطبائى وإنهما فقدا العضوية من وقت صدور حكم محكمة التمييز الجزائية ضدهما فى قضية دخول المجلس، موضحاً أن دور المجلس حالياً يتمثل فى إعلان إسقاط العضوية، وإعمال حكم المادة 84 من الدستور بشأن خلو مقعدى النائبين، ومن ثم إخطار الحكومة بالدعوة لانتخابات تكميلية فى الدائرتين الثانية والثالثة. وذكر أن إعلان إسقاط العضوية يتطلب صدور قرار من المجلس، تفعيلاً لحكم «الدستورية»، موضحاً أن ذلك يتطلب أغلبية حضور لا أغلبية خاصة، وإذا رفض المجلس فإن ذلك يمثل تحدياً لأحكام القضاء.