أثار إعلان وزارة المالية، مؤخراً، بدراستها إصدار عملة معدنية جديدة من فئة الجنيهين، الكثير من الجدل فى الأوساط المجتمعية والاقتصادية حول مدى إمكانية لجوء الحكومة إلى إلغاء التعامل بالعملات قليلة القيمة مثل الربع والنصف جنيه، وقد يصل الأمر إلى الجنيه نفسه؛ بسبب التخوفات من ارتفاعات معدل التضخم المتتالية «معدل الارتفاع فى أسعار السلع»، مثلما فعلت من قبل عندما ألغت المليم والتعريفة فى أبريل 1981، عقب اعتماد القرش كأساس للتعامل فى مصر. اختلفت آراء خبراء الاقتصاد فى القرار؛ حيث قال البعض، إنَّ السبب الرئيسى لدراسة إصدار عملة معدنية جديدة، هو ارتفاع نسبة التضخم خلال السنتين الأخيرتين، فقد أدى ارتفاع التضخم إلى تآكل قيمة العملات الصغيرة مثل الجنيه والنصف والربع جنيه، وأصبح المواطن لا يستطيع شراء أى سلعة بهذه العملات، مشيرين إلى أن قيمتها أصبحت متدنية وكأن الدولة تريد أن تقول للمواطنين، إنَّ التعامل سيبدأ بعد ذلك من فئة ال2 جنيه. ويرى آخرون، أنَّ إصدار العملة الجديدة سيخلق سيولة فى الحركة التجارية، ويخفف الأعباء على المواطنين الذين يضطرون لحمل العملات المعدنية بالقيمة الحالية، ولن يؤثر على قيمة الجنيه. يأتى قرار وزارة المالية، لمزيد من التيسير على المواطنين وعلى غرار العملات المعدنية من الفئة نفسها التى تطرحها بعض الدول العربية والأوروبية للتخفيف عن مواطنيها. وقال الدكتور محمد معيط، وزير المالية، إنَّ الوزارة تبحث إصدار عملة فئة 2 جنيه، والأمر تتم دراسته والقرار سيكون قريباً. يذكر أن بداية تاريخ العملات المصرية يعود إلى عصر محمد على باشا فى القرن الثامن عشر، عندما كانت هناك بعض العملات الصغيرة مثل السحتوت والبارة، ثم تطور الأمر فى عام 1836 عندما تم سك أول جنيه مصرى ذهبى وفضى وتم طرحه للتداول. العملات المصرية.. رحلة تطور بدءاً من «السحتوت» لم تمتلك مصر عملة موحدة حتى عام 1834؛ حيث كانت تتعامل بالعملات الذهبية والفضية، ولم تكن هناك عملة موحدة يعتمد عليها المواطنون فى تعاملاتهم اليومية، حتى صدر مرسوم بشأن مشروع قانون لإصدار عملة مصرية جديدة تستند إلى نظام المعدنين (الذهب والفضة)، ليحل محل العملة المتداولة فى هذا الوقت وهى القرش. وبموجب هذا المرسوم أصبح سك النقود فى شكل ريالات من الذهب والفضة حكراً على الحكومة، وفى عام 1836 تم سك الجنيه المصرى وطرح للتداول. ونظراً إلى عجز دور السك المصرية عن تلبية احتياجات المعاملات الكبيرة والتجارة الخارجية، وبسبب استخدام عملات أجنبية لهذا الغرض، فقد تم تحديد أسعار الصرف بقوة القانون بالنسبة للعملات الأجنبية المقبولة فى تسوية المعاملات الداخلية، وأدت التقلبات فى قيمة الفضة، إضافة إلى اعتماد معيار الذهب من جانب معظم الشركاء التجاريين لمصر وخاصة المملكة المتحدة إلى تطبيق معيار الذهب على أساس الأمر الواقع، وبعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من تطبيق نظام المعدنين. وفى أعقاب الأزمة المالية الناجمة عن تراكم الديون الخارجية على مصر أواخر القرن التاسع عشر صدر قانون الإصلاح النقدى عام 1885، وبموجب هذا القانون أصبح معيار الذهب أساساً للنظام النقدى المصرى، وأصبح للبلد عملة موحدة، وهى الجنيه الذهبى المصرى، وهكذا تم التخلى عن معيار المعدنين رسمياً. وبسبب نقص الإصدارات الجديدة من الجنيه الذهبى المصرى سُمح باستخدام بعض العملات الذهبية الأجنبية وخاصة الجنيه الإسترلينى بأسعار صرف ثابتة فى حين ظل الجنيه الذهبى المصرى يعتبر العملة القانونية لمصر، وظل الجنيه الذهبى الإسترلينى والتى كانت قيمته تقدر بأكثر من محتواه الذهبى، مقارنة بغيره من العملات الأجنبية الذهبية الأخرى يمثل الوسيلة الرئيسية للتبادل، ولم يعد النظام النقدى يستند إلى معيار الذهب المعتاد، ولكن على المعيار الذهبى الإسترلينى. وظلت العملات الذهبية تمثل وسيلة التعامل حتى عام 1898، عندما أنشئ البنك الأهلى المصرى، ومنح من جانب الحكومة امتياز إصدار الأوراق النقدية القابلة للتحويل إلى ذهب لمدة 50 عاماً، وقد بدأ البنك الأهلى فى إصدار أوراق النقد لأول مرة فى الثالث من أبريل عام 1899. وهكذا أصبحت العملات المتداولة فى مصر تضم الجنيه الإسترلينى الذهب، وأوراق النقد المصرية القابلة للتحويل إلى ذهب، واستمر هذا الوضع حتى عام 1914 عندما صدر مرسوم خاص جعل أوراق النقد المصرية أداة الإبراء القانونى والعملة الرسمية لمصر، وأوقف قابلية تحويلها إلى ذهب، وبالتالى أصبح الجنيه المصرى الورقى هو الوحدة الأساسية للعملة. وتغيرت قاعدة النظام النقدى المصرى إلى الجنيه الورقى، ولم تعد العملات الذهبية تستخدم فى التداول، ونتج عن هذا زيادة حجم النقد المصدر من 11.6 مليون جنيه فى نهاية عام 1915 إلى 3557 مليون جنيه فى نهاية عام 1980، وإلى 38320 مليون جنيه فى نهاية عام 1999. وحول أصل تسمية الجنيه، فإنها ليست عربية، وإنما هى إنجليزية لعملة إنجلترا التى كانت متداولة بها منذ أربعمائة عام مضت وهى Guinea (ينطق: جِنى بالجيم المصرية). وينقسم الجنيه إلى مائة قرش، والقرش كان العملة المتداولة فى الدولة العثمانية، ويقسم القرش إلى 10 مليمات، وهو وحدة قياس عددية باللغة الفرنسية Millieme وتعنى واحداً من الألف؛ حيث إنَّ الجنيه مكون من ألف مليم، وأول استخدام للمليم كان فى عام 1885 تحت مسمى «عشر القرش»، أما تسمية المليم فكانت فى عام 1916 وأول مليم مصرى تم سكه كان فى عهد السلطان حسين كامل سنة 1917. وقبل ظهور المليم كانت هناك عملة السحتوت، التى تعتبر إحدى أقدم العملات المصرية التى كان يتم التعامل بها بين المصريين؛ حيث ظهرت خلال بدايات حكم محمد على باشا لمصر بعدما اهتم محمد على بالإصلاح الاقتصادى، وأصدر قراراً بسك وطرح عدة عملات جديدة فى الدولة لإنعاش السوق اقتصادياً. ويعود تسمية هذه العملة بهذا الاسم إلى دولتى فلسطين وسوريا الذى كان منتشراً بشدة فيهما، لكنَّ هذه العملة اختفت منذ سنوات طويلة، وكانت توازى ربع مليم، والجنيه بعدها كان يساوى 4 آلاف سحتوت. وبجانب المليم والسحتوت فقد ظهرت عملات أخرى أصغر من الجنيه، وتم إلغاؤها جميعاً حالياً، منها النكلة التى تعتبر واحدة من أقل الفئات المتفرعة من الجنيه المصرى، إذ إنَّ قيمتها المادية تقدر ب22 مليماً، والتعريفة التى هى اشتقاق من الجنيه المصرى، وتقدر بقيمة 5 مليمات، وهى مأخوذة من المصطلح الإنجليزى «Tarriff»، الذى كان يستخدم للإشارة إلى الرسوم التى تدفع للجمارك، وما زال الاقتصاد المصرى حتى اليوم يستخدم ذات المصطلح، فالضرائب على الواردات والصادرات تسمى «التعريفة الجمركية». إضافة إلى المليم والنكلة والتعريفة، كانت هناك عملة الشِلِن Shilling ويوازى خمسة قروش، وكان يساوى الشلن البريطانى الذى استخدم بعد الاحتلال البريطانى لتنفيذ الإصلاح النقدى، فضلاً عن عملة البريزة التى تطلق على جزء الجنيه المصرى المشكل من 100 مليم، وهى المصطلح الوحيد الذى لم يستمد من الإنجليزية، بل استمد من الموقع الذى ضُربت فيه هذه العملة، إذ تم سكها فى باريس بطلب من الوالى سعيد باشا، وكان المصريون يطلقون على العاصمة الفرنسية باريز، ومنها اشتق مصطلح البريزة الذى أطلق على العملة المستحدثة آنذاك، وأخيراً عملة الريال الذى كان يوازى عشرين قرشاً. خبراء: التضخم هو السبب.. ونتوقع صدور 500 جنيه قال وائل النحاس، الخبير الاقتصادى، إن السبب الرئيسى لدراسة وزارة المالية إصدار عملة معدنية جديدة فئة جنيهين، هو ارتفاع نسبة التضخم خلال السنتين الأخيرتين بشكل كبير. وأضاف النحاس أن ارتفاع التضخم أدى إلى تآكل قيمة العملات الصغيرة مثل الجنيه والنصف والربع جنيه، وأصبح المواطن لا يستطيع شراء أى سلعة بهذه العملات، ولذلك تفكر المالية حالياً فى إصدار عملة ال2 جنيه حتى تيسر عمليات البيع والشراء والتعاملات اليومية بين المواطنين وبعضهم البعض، مشيراً إلى أن إصدار هذه العملة الجديدة يعنى ضمنياً الاستغناء عن العملات ذات القيمة المنخفضة، وقريباً ستصبح ذكرى، قائلاً: «قريب جداً هيكون الربع والنصف جنيه تذكار». وأوضح الخبير الاقتصادى، أن هذا الأمر ليست له علاقة بأزمة الفكة الحالية، لافتاً إلى أن وزارة المالية لو أرادات حل أزمة الفكة لكانت أصدرت مزيداً من عملات الجنيه والنصف والربع جنيه. وأشار «النحاس» إلى أن من ضمن أسباب الاتجاه لإصدار العملة المعدنية الجديدة أيضاً، انخفاض تكلفة إصدارها مقارنة بالعملات الأصغر، فمثلاً تكلفة الجنيه المعدن نحو 95 قرشاً، ولذلك فالدولة لا تربح منها سوى 5 قروش، بينما العملة الجديدة ذات الجنيهين ستكون تكلفتها مشابهة للجنيه، ولذلك فهى أقل تكلفة وأكثر ربحاً. وتابع: «فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك كانت هناك نية لإصدار عملة جديدة فئة 500 جنيه، مثل ال500 يورو للتسهيل على المستثمرين فى حمل الأموال من البنوك وإليها وغير ذلك من الأمور النقدية، ولكن وزير المالية يوسف بطرس غالى اعترض وقتها بسبب تأثير ذلك على التضخم، وتم الاتفاق على أن تكون ال200 جنيه هى أعلى فئة، ولكن من الممكن فى الفترة المقبلة أن نشهد إعادة التفكير فى هذا الأمر من جديد وقد نرى عملة ال500 جنيه». الدكتور صلاح الدين فهمى، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، قال إنه كلما تصدر الدولة عملة جديدة أكبر فى القيمة من العملة الموجودة حاليا، فإن ذلك يعنى انخفاض القيمة الشرائية للعملة الحالية، ولذلك فإن إصدار عملة ال2 جنيه يعنى انخفاض قيمة الجنيه. وأضاف «فهمى»، أن عملات الجنيه والنصف والربع جنيه قيمتها أصبحت متدنية وكأن الدولة تريد أن تقول للمواطنين إن التعامل سيبدأ بعد ذلك من فئة ال2 جنيه، وهو ما سيعطى إحساس بأن القيمة الشرائية للجنيه أصبحت ضعيفة جداً، متابعاً: «وبالمثل لو أصدرت الدولة عملة أكبر من الفئة الأعلى حالياً وهى ال200 جنيه، فإن ذلك يعنى انخفاض قيمة هذه العملة، ولو رجعنا بالزمن للسبعينيات كانت أكبر عملة 50 جنيهاً وكان المواطن يشترى بها حاجات كتير جداً، والآن ال50 جنيها ما بتعملش حاجة». وتوقع أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، أن نرى عملة جديدة فئة 500 جنيه قريباً، لأن قيمة ال200 جنيه الشرائية حالياً انخفضت، فالمواطن الذى كانت تكفيه هذه العملة لمدة أسبوع، أصبحت حالياً لا تكفى مصاريف يومين بسبب ارتفاع التضخم خلال العامين الماضيين. وحول إمكانية إلغاء عملات الجنيه والربع والنصف جنيه، أوضح فهمى أن ذلك لن يحدث قريباً، ولكن المواطنين فى تعاملاتهم اليومية سوف يشعرون تدريجياً بعدم أهمية هذه العملات وسنجدها تختفى يوماً بعد يوم، لأنها أصبحت لا تشترى أى شىء. من جانبه، قال الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادى، إن تصريحات الوزير بشأن دراسة هذا الأمر تعنى سك عملة معدنية من قبل مصلحة سك العملة بالوزارة، لأن العملات الورقية تقتصر على البنك المركزى وليس الوزارة، وهو ما يعنى وجود عملة معدنية بفئة 2 جنيه. ورحب الخبير الاقتصادى بالمقترح، واصفاً إياه بأنه سيخلق سيولة فى الحركة التجارية، وتخفيف الأعباء على المواطنين الذين يضطرون لحمل العملات المعدنية بالقيمة الحالية، قائلاً: «الأمر يعنى اليسر بحمل المواطن مثلاً ل10 جنيهات فى 5 قطع معدنية، بدلاً من 10 قطع ترهق المواطنين، ولا علاقة له بانخفاض قيمة الجنيه».