عندما اختار العمل فى الصحافة، لم يكن الأمر من منطلق موهبته الصحفية فقط أو حبه للمغامرة التى استمدها من عشقه للقمار ولعب «البوكر» الملىء بالمجازفة، ولكن أيضا انطلاقا من امتلاك أسرته ذات النفوذ والثروة لغالبية الأسهم فى صحيفة إلتيمبو منذ عام 1913 وحتى عام 2007، لكن الصحافة كانت محطته العملية الأولى التى انطلق منها إلى عالم الاقتصاد والسياسة المدعومة بمزيد من الدراسة، ودعم الدراسة بدور عملى من خلال المشاركة فى جهود وساطة تديرها مؤسسة للسلام من أجل التوصل لتهدئة ونزع السلاح من جماعة فارك المتمردة، ولفت جهده أنظار الحكومة فى بلاده، فاختارته وزيرا للدفاع، وهنا كانت بداية دخوله عالم السياسة، فتصاعد طموحه حتى قلب قصر الرئاسة ليصبح رئيسا لبلاده فترتين متتاليتين وحتى الآن، وهو فى سياسته لم يتخل عن روح المقامرة، والتى جعلته يغامر بشعبيته بعقد أكبر اتفاق سلام تاريخى مع حركة التمرد فى بلاده، أملا فى إقرار السلام وحقن دماء شعبه، ورفض كثير من ساسة بلاده الاتفاق بمن فيهم الرئيس السابق، فخرجت مظاهرات شعبية ضده تطالبه بإنهاء الاتفاق، إلا انه تشبث به فى عناد المقامر الذى لا تهمه خسارة مبدئية ويصر على مواصلة اللعبة حتى النهاية. إنه الرئيس الكولومبى الحالى خوان مانويل سانتوس، ولد خوان فى 10 أغسطس 1951 فى العاصمة الكولومبية بوجوتا لأسرة ثرية، تخرج من جامعة كانساس الأمريكية، وحصل فيما بعد على درجة البكالوريوس فى الاقتصاد وإدارة الأعمال، ثم على درجة الماجستير فى علوم التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى حصوله على الماجستير فى الإدارة العامة من كلية جون كينيدى، عرف لمن حوله كشخص صارم، بالغ الدقة، ومن محبى لعبة البوكر، والمجازفة بشكل عام، فبجانب تألقه فى عمله الصحفى، عمل منذ عام 1994 على قيادة إحدى المؤسسات الهادفة لتسهيل مباحثات السلام مع منظمة فارك المسلحة المتمردة فى كولومبيا، وهو ما لفت أنظار الحكومة اليه، فتم اختياره لمنصب وزير الدفاع عام 2006 ولمدة 3 أعوام، ثم تم اختياره وزيرا للتجارة الخارجية فى حكومة سيزار جافيريا عام 1991، أيضا لمدة ثلاثة اعوام، ثم وزيرا للمالية فى حكومة الرئيس أندريس باسترانا عام 2000. ورغم أنه كان داعيا للسلام مع حركة فارك ومتبنيا للتفاوض معها، إلا أنه عندما تولى وزارة الدفاع، تبنى سياسة متشددة ومغايرة ضد فارك، آملاً بإضعافها لإجبارها على التفاوض، وفى يوليو 2008 أمر الجيش بتنفيذ عملية ضد فارك لتحرير 15 رهينة كان المتمردون يحتجزونهم بينهم 3 أجانب، كما أمر بقصف مخيم للمتمردين الفارك فى الإكوادور، وأثارت العملية رفضا وجدالا من الصليب الأحمر، كما قطع رئيس الإكوادور رافاييل كوريا العلاقات الدبلوماسية مع كولومبيا لمدة عشرين شهرا لتنفيذ العملية على أرض بلاده، وأصدر القضاء الإكوادورى مذكرة اعتقال بحقه بتهمة القتل وطالب بتسليمه. كما تسبب سانتوس فى فضيحة عرفت باسم الميليشيات المزيفة، حيث وضع الجيش الكولومبى سراً مكافأة لمن يقبض على اى مقاتل من مقاتلى الميليشيات المتمردة حياً أو ميتاً، وأدى ذلك إلى قتل نحو 3 آلاف من الأبرياء ونسبتهم إلى الميليشيات، عن طريق التزييف بإلباسهم الملابس العسكرية الخاصة بمقاتلى الميليشيات المتمردة. واستقال سانتوس من منصب وزير الدفاع عام 2009، استعداداً لترشحه للرئاسة، وفاز بالفعل فى الانتخابات، ثم ترشح لولاية ثانية فى يونيو 2014، وفاز ايضا بالرئاسة، وعلى عكس تعهداته، التى أطلقها فور انتخابه، بالاستمرار فى سياسته المتشددة حيال حركة فارك، والتى انتهجها أثناء توليه وزارة الدفاع، فقد اتخذ طريقاً أكثر اعتدالاً كرئيس وأطلق مفاوضات معها، ونجح بالفعل فى توقيع معاهدة سلام تاريخية مع متمردى فارك عام 2016 لإنهاء الحرب الأهلية فى كولومبيا. بمساعدة من كوبا،، منهياً بذلك تمردا استمر 52 عاما. وعرض سانتوس الاتفاق للاستفتاء أمام الشعب الكولومبى بهدف تحويله إلى قانون يجرى تنفيذه، لكن الشعب الكولومبى صوت بالأغلبية ضده، وقام رئيس كولومبيا السابق ألفارو أوريبى بإثارة الشعب ضد معاهدة السلام، واندلعت مظاهرات ضد سانتوس الأمر الذى هدد شعبيته، لكنه تمسك بالاتفاقية لوقف إطلاق النار ونزع سلاح التمرد أملا فى حقن الدماء. ورغم رفض أغلب الشعب للاتفاقية إلى أن سانتوس فاز بجائزة نوبل للسلام عام 2016 لجهوده من أجل إنهاء الحرب الأهلية، تلك الحرب التى أوقعت ما لا يقل عن 260 ألف قتيل، وأسفرت عن أكثر من 60 ألف مفقود و6,9 مليون نازح، وعلق سانتوس على الجائزة بقوله: إن الاتفاق المبرم مع حركة «القوات المسلحة الثورية الكولومبية» (فارك) الماركسية «قد يشكل نموذجا لحل النزاعات المسلحة الدائرة حول العالم، لقد أثبت أن الأمر الذى يبدو مستحيلا، يمكن أن يصبح ممكنا، حتى فى سوريا أو اليمن أو جنوب السودان.