طوال عصر مبارك، كانت أجهزة أمنه وميليشيات إعلامه ورجال مطبخه السياسي وسفرجية قصره الحاكم، ينشرون بين الناس فزاعتين أساسيتين: الأولى «الإخوان المسلمون»، والثانية «قطر». لم يتركوا نقيصة إلا وألصقوها ب «الإخوان»، ولم يأتوا بمؤامرة إلا ونسبوها ل «قطر». سنوات وعقود ونحن نسمع من رجال السلطة وتوابعهم عن «خطط» و «مخططات» الجماعة لقلب النظام. لكن لم يوضحوا إذا كان هذا الأمر يقتضي أن يكون النظام مقلوبا على بطنه أم على وضع آخر. زادوا في الحديث عن «الشبكات الدولية» و «العلاقات العنكبوتية الإخوانية» من الأرجنتين والمكسيك وبلاد تلبس «الكاوبوي» غربا حتى الفلبين وتيمور ودول تركب الأفيال شرقا. سردوا حكايات واخترعوا مواقف عن الخطر التاريخي للجماعة، لكن المفارقة أنها كلها تتنافى مع المنطق والواقع الذي نعيشه وهو أن «الإخوان» كانوا ضيفا دائما ومستقرا في سجون ومعتقلات كل الأنظمة. ربما كانوا يبررون اعتقال «الجماعة» بالترويج والتهويل عن خطورة أفرادها. كبارهم دفعوا الثمن قبل صغارهم، وكثيرون قضوا من التعذيب. في عهد مبارك وحده تعرض نحو 100 ألف «إخواني» للسجن. للأسف استعان الإعلام الحكومي في نشر كذبه الفاجر بمجموعات من المثقفين اليساريين الذين سبقوا ونالوا نصيبهم من التعذيب والنفي والاعتقال، وذاقوا مرارة الظلم. إعلام غبي لم يتعلم الدرس، فزيادة حدة الحملات جاءت - كالعادة- بنتائج عكسية. بالنسبة ل «قطر»، هي -كما يروجون- رأس كل مؤامرة كونية، وتستهدف السيطرة على العالم.. دولة دولة، ومدينة مدينة، وقريبة قرية ونجع نجع. وفي القلب طبعا ولسبب لا نعرفه «مصر مبارك». ربما لأن «المخلوع مبارك» كان يقف حجر عثرة في طريق مؤامرات الدوحة. إذا أذاعت «الجزيرة» تقريرا عن مصر تخرج حاشية الحكم وهتيفته: «يا ساتر.. بصوا شوفوا الحقد والسموم». لو صدر عن قطر أي موقف في أي قضية أو قامت بمصالحة بين الفرقاء هنا وهناك أو لعبت دورا في هذا الملف أو ذاك في غياب تام لأي تواجد مصري، رددوا معا في صوت واحد: «مهما عملوا، هيروحوا جنبنا فين». صورت لنا الحروب الإعلامية القطريين وكأنهم قوم جبارون يرفع الواحد منهم إشارة من يده فيبدأ خبراء المؤامرات الدولية وضع التكتيكات للسيطرة وبسط النفوذ في هذه القارة أو تلك. أما وقد جدّ رابط بين «الإخوان» و «قطر»، فكان طبيعيا أن تبدأ فرق «الندب» و «الولولة» في وسائل الإعلام الرسمية ومن تدور في فلكها من الصحف والفضائيات الخاصة، في النحيب والتحذير من لقاء الجبابرة، وانعكاساته الكارثية على أوضاع العالم ومصر. إعلام مصر لم يتغير بعد ثورة «25 يناير». استبدلوا بنفاق وموالسة مبارك وتابعه «جمال»، المجلسَ العسكريَ وحوارييه باعتبار أن بيدهم «المنح» و «المنع». ليس غريبا والحال كذلك أن يستمر هذا الإعلام على نفس نهج التخويف من فزاعتي «الإخوان» و «قطر». جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب، بعد سفر وفد «إخواني» إلى الدوحة ضمن وفود زارت عدة دول للاستفادة من تجاربها في المجالين السياسي والاقتصادي ونقل ما يصلح منها للتطبيق في مصر وفتح آفاق جديدة للاستثمار في الدولة. الجماعة كانت واضحة تماما في تفسير هذه السفريات: «عندما فزنا بالأغلبية في الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، شعرنا أنه سيكون لنا دور في السلطة التنفيذية، فبدأنا الاستعداد والاستفادة من تجارب دول أخرى». هي خطوة تحسب بالتأكيد ل «الإخوان» وحزبهم «الحرية والعدالة». الإنصاف يقتضي القول من خصوم الجماعة قبل محبيها إن شيوخ «الإخوان» وقادة حزبهم لم يجلسوا على سجادة الصلاة ممسكين بالمسابح، مكتفين بالابتهال إلى الله أن يحل أزمات المحروسة، قادر يا كريم، وأن يوفر لها كل طلعة شمس المأكل والمشرب والملبس وأسطوانات الغاز وجالونات الوقود، وأن يلهمها في كل خطوة مستثمرا، وكل حركة مكسبا، وكل لفتة مغنما. لم تتواكل الجماعة، بل أرادت وضع خطط على أرض الواقع مستلهمة تجارب ناجحة هنا وهناك. في ماليزيا تابعوا تجربة حشد الأعراق والطوائف المختلفة للمجتمع نحو مشروع وهدف قومي مشترك. في تركيا اطلعوا على نجاح إنجاز تضاعف الدخل القومي 4 مرات خلال 10 سنوات. في الهند استكشفوا تجارب المشروعات متناهية الصغر. في البرازيل تابعوا أساليب محاربة الفساد والفقر. في قطر لمسوا معالم النهضة الاقتصادية والتعليمية والصحية. زاروا دولا أخرى في أوروبا مثل إيطاليا وألمانيا ودولة آسيوية ناهضة لم يلتفت إليها أحد هي فيتنام. لكن كل من أجروا حوارات سواء صحافية أو تلفزيونية مع مرشح الجماعة المستبعد من انتخابات الرئاسة خيرت الشاطر، تركوا أسماء كل الدول التي زارتها وفود «الإخوان» وأمسكوا في «قطر». إنهم أسرى «الفزاعة» القديمة. يفعلون مثل العنكبوت الذي لا يخرج أبداً عن الخطوط التي اعتاد العيش فيها. لو خرجوا منها يموتون. هم أصلا ما زالوا متمسكين بالصورة الذهنية التي روجوها بأنفسهم عن «الشاطر»، قدموه مع كل قضية تلفقها السلطة له كأنه شخصية خارقة للطبيعة».. سوبرمان» الذي يدير من السجون شبكة ضخمة من استثمارات جماعة «الإخوان» حول العالم. لم ينتبه أحد لسؤال بديهي: كيف ل «الشاطر» الذي دخل السجن في مكيدة دبرها له وزير الداخلية الأسبق وأجهزة أمنه وبطلب من القصر الرئاسي ووريث الحكم الخائب، أن يدير إمبراطوريات مالية من وراء القضبان، وداخل زنزانة يعدون فيها أنفاسه طوال 24 ساعة، فضلا عن أنه لم يكن مسموحا له بالزيارة إلا لأفراد معدودين من عائلته؟! انهالوا بالأسئلة على الرجل عن علاقته بقطر، وما الذي ناقشه هناك، وهل صحيح أن القطريين عرضوا عليه استئجار قناة السويس 99 عاما، مع مقالات وتقارير في الصحف عن أن الهدف النهائي من وراء كل ذلك هو تحقيق مصلحة إسرائيل في القناة. ينظرون بعين الريبة لكلام «الشاطر» وهو يؤكد لهم ويقسم أن «الإخوان» لم يناقشوا مع القطريين أي مشروعات بعينها، وأن الزيارة كانت مثل الزيارات لباقي الدول هدفها الاستفادة من التجارب الناجحة هناك ومحاولة نقل الصالح منها لتطبيقه في مصر. اتهامات «حامضة» بلا طعم، ضمن الخبز اليومي الذي اعتدنا عليه أيام الرئيس المخلوع بشأن «الإخوان» و «قطر». ذكرت من قبل أنني لست «إخوانيا»، ولست مكلفا بالدفاع عنهم، فلهم وسائلهم وعندهم مريدوهم. لكني أتحدث عن غياب العقل في تناول الأمور، وثقافة «التربص» بالآخر والنظر بعين الشك لكل ما يصدر منه. ما المانع أن ننقد جماعة «الإخوان» أو غيرها في هذا الموقف أو ذاك، ثم نشيد بها لو أتت بما يستحق الإشادة مثل السفريات الأخيرة للاستفادة من تجارب الدول الأخرى. لم ينتبه أحد أنهم الوحيدون الذين يستعدون عمليا وببرامج واجتهادات لحل أزمات مصر، دون أغلب مرشحي الرئاسة الذين يدخلون السباق بثقافة وأسلوب من يخوض انتخابات «العمودية» في قريتنا. أما عن قطر فلا أنكر أن لها مكانة خاصة في قلبي وروحي كونها أول بلد أراها في حياتي بعد مصر. إنها تشبه «الحب الأول».. كيف أمحوك من أوراق ذاكرتي.. وأنت القلب مثل النقش في الحجر! نقلا عن صحيفةالعرب القطرية