تنعكس أولى خيوط شمس الصباح على وجنته الغضة، فترسم طريقها بين ثنايا وجنته النابضة بالحياة، يقف "نادر"، الصبي السكندري كوتد يخرج من بين زغب الرمل الذهبي يشق بصره عنان الأفق باحثًا عن بشائر ضياء الأحلام المنتظرة. بينما تتراص مراكب "المكس"، كحبات مسبحة يباري بهاء لونها وشاح السماء، تحد ضفاف الفقر ومرتع الإهمال، يقبع منزل "نادر" على مرمى البصر، قائمًا على طابقين لاتتعدى مساحة أحدهما كوخ صغير، من أسراب العشش التي تجاوره، حاك القدر الصدف فأصبح منشأه الشامخ بجمال بنيانه، ومرتع لهوه طفلًا تصاحبه رفيقته الوحيدة، شقيقته "آلاء"، يركضان لساعات بين أحضان حدائق الموز صبائح أيام النعيم البائدة. ينتزعه صوت أباه، عبد الرزاق، بنبرة حانية من بين ألوان الأحلام الزاهية، يقوده الجوع بعينين أغشاهما النعاس بعيدًا عن دفء مضجعه، إلى غياهب المتوسط بينما تغشى أمواجه العاتية جزيرة سلطان، يمحي عنفوانه أثر آخر أمانيه المنسية في العودة أمنا في ظل أبيه محملين برزق وافر، قبل أن تنجلي هواجسه مع مرور طيف وجه أمه الهادئ يلوح به خيال الحزن الراسي خلف ضي عينيها النجلاوتين، تحبك كدبة الرضا ببسمات ذابلة تعلو جبين خامل. ليالي طويلة يرسم الخوف ملامحه على الوجوه، يجلس عبد الرزاق مترقبًا خيوط الفجر الأولى على أعتاب منزله قبل أن يهيم على وجه متوكئا بعود أحنته قلة الحيلة، على ابنه، يلقي بأعز مايملك إلى المجهول، متحديًا صدى تحذيرات تجاوز حظر الصيد المفروض طيلة الأسبوعيين الماضيين تكرره موجات الأثير المحلي كل مساء على أسماع الملايين، من بسطاء الصيادين وأرقهم حالًا. يتجاوز "نادر" الذي لم يمر على بلوغه الحلم سوى 4 أعوام، صخور جزيرة سلطان، ومراكب الصيد التي أهلكتها قلة الاستخدام ورطوبة البحر، أطلال تجثم على الشاطئ، شاهدة على عامين من القحط لم تتجلى بعد أنوار الخلاص منه، مسترقًا السمع لهسيس ساكني البحر وحواراتهم الهامسة، التي تسري الرعب في أبدان أغلظ الرجال، توخز أنفاسه المتلاحقة من فرط الرهبة أضلع صدره، فتتعالي أصوات ضربات الحياة داخله على أطياف الخوف المتراكم، قبل أن يثقب بساط التردد يقبع على صدره لينسل مع والده إلى الماء ممتطيًا عوامته السوداء طلبًا لمايجود به الرزاق. طبعت مفردات بيئته شخصيتها عليه فنقشت صفاتها العفوية الربانية بداخله من تقلبات البحر وشقاوة أمواجه واندفاعه الغاضب وبين سكون الليل وصفاء سماءه، فكانت جميعها عوامل شكلت الصياد الصغير، الذي خرج من رحم البحر معتبره حياته يعيش به وله. ورغم وجهه البشوش الساكن كالليل، إلا أن أعماق عينيه البريئة تستطيع أن ترى منها معاناته المتجسدة في نظرة عينياه بعد أن تمكنت منه الأيام وحفرت على ملامحه قساوتها، تلمع عيون الصياد الصغير وترقص ملامحه كالعاشق الولهان حين تطرق مسامعه حروف عشيقه "ب-ح-ر"، وكل ما يتعلق بها من صيد ومركب وصنارة والتي تلمس شغاف قلبه البرئ، فتتغير تفاصيل وجهه الأسمر ويتحرر من قيوده الهادئة وينسى معاناته. لم يحتمل الصغير رؤية أبيه يتعذب وحده ليعيل أسرته فكان شاهد عيان على معاناة سنده كل ليلة للخروج للصيد وقت المنع، ليقرر لحظة تهور لم يندم عليها أن يترك مدرسته ليعين والده على تلك الأيام. لطالما كان يعتبر المدرسة السجان الذي يحبسه خلف أسواره بعيدًا عن محبوبته، وكثيرًا ما كان يجلس بين زملائه داخل الفصل بجسده فقط، فلم ينتبه لاستاذه وشرحه عن الجغرافيا والحساب، فروحه بعيدة تحوم عند البحر، تداعب أمواجه ثلجية اللون وتغزل خيوط حلمه كبحار مغوار ينطلق بمركبه ويصطاد ويغامر، فالبحر يجسد لنادرعالمه الخاص واعتبره مدرسة تعليمية حياتية اكتفي به عن أي شيء. فبعد أن عشش الماء الأزرق وأمواجه بقلب الصغير يتنفس منه ويعيش له، يحلم به وينسج من وحي خياله قصص هو بطلها، ويرى نفسه قبطان البحر تارة والصياد الماهر تارة، لن يندم على تلك الخطوة بل تملك شعور الراحة والسكينة عقب تركه للدراسه وتفرغه للبحر والصيد. فكان يخرج خلسة مع والده ويجلس فوق أرجله ، معًا، على "عوامة" واحدة يتوغلان في ظلام الليل تاركين قلب الأم ملتاعًا عليهما والابنة "آلاء" ينهش القلق صدرها خوفًا على أبيها وأخيها بطلاها في الحياة، يراود الصياد الصغير حلمًا ماسيًا بامتلاك عدة مراكب يرتحل بهم وقتما يشاء يصطاد ويبحر ويغامر دون أن يمنعه أو حرس أو يقيده توقيت. شاهد الفيديو...