تعد مهمة البحث الشرعى من المهام الأصيلة بمؤسسة دار الافتاء المصرية، حيث إنه يفترض فى القائم بالمهام الافتائية أن تتوفر فيه شروط الباحث، من حيث الإلمام بالمراجع المتنوعة فى الفنون المختلفة والخبرة بها، مع القدرة على الوصول إلى المعلومات العلمية فى مظانها، ثم تحليلها عن طريق شبكة ذهنية من العلوم الشرعية واللغوية والعقلية، ومن ثم تكوين رأى علمى موضوعى فى المسألة محل البحث من خلال قواعد الفهم وأصول الترجيح والاختيار. ومع تعدد النوازل المستحدثة وتجددها الدائم - الأمر الذى تسبب فيه ما طرأ على الواقع من تغير سريع مستمر فى عالم الأشياء وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، وعالم النظم - ومع الرغبة الأكيدة فى تأصيل معايير الترجيح والاعتماد فى الفتوى من بين الأقوال المختلفة بحسب مقاصد الشرع العامة وقواعده الكلية ومصالح الخلق المرعية، بالاضافة إلى تعدد المهام الملقاة على عاتق العاملين بالقطاع الشرعى بدار الافتاء - كانت الحاجة أكيدة لإيجاد إدارة مستقلة تكون معنية بالشأن البحثى فى المقام الأول لمواكبة تلك المستجدات بقدر الطاقة والنظر فيها وبيان ما يتعلق بها من أحكام على قانون البحث العلمي، فجاء إنشاء إدارة للأبحاث الشرعية فى عام 2007م ليلبى هذه الحاجة، وكانت أولا تسمى بقسم الأبحاث الشرعية والفتاوى الإلكترونية، والذى ضم نخبة من الباحثين الشرعيين والمترجمين من ذوى الكفاءات، وكان هذا القسم وقتئذ مضطلعًا بجملة من المهام منها: الاشراف العلمى على الموقع الالكترونى لدار الافتاء وإمداده بالمواد العلمية الشرعية المتنوعة بلغات مختلفة، وصلت إلى تسع لغات سوى العربية، وكذلك الاجابة عن اسئلة البريد الإلكترونى التى ترد عبر الموقع المذكور. ومع الكثرة العددية لحالات الاستفتاء وتنوع الموضوعات الجديدة فيها من جهة، وزيادة التكليفات المنوطة بالشرعيين فى الدار من جهة ثانية، والعمل على تطوير الهيكلة الإدارية للمؤسسة من جهة ثالثة، تطور ذلك القسم بدوره، فخرجت من عباءته إدارتان مستقلتان، وهما: إدارة الفتاوى الإلكترونية، وإدارة الموقع الإلكترونى والترجمة، وصار هو إدارة مستقلة تحت اسم: إدارة الأبحاث الشرعية، وأصبحت وظيفتها الرئيسية هي: العمل على إنشاء الأبحاث الشرعية المتخصصة التى تخدم العمل الافتائى سواء على مستوى المسائل أو الموضوعات فى الفقه وأصوله، وسواء أكانت تلك المسائل مستحدثة أم قد احتواها التراث الفقهى من قبل، وكذلك تأصيل الفتاوى تأصيلا شرعيًا وتعميقها من الناحية الفقهية مع التقيد بأصول البحث العلمى والحرص على إظهار الحرفية العالية فى صناعة الفتوى وابراز تفاصيل العملية الذهنية التى تدور فى عقل المفتى ليصل فى نهايتها إلى الحكم الشرعى فى مسألة مخصوصة أو واقعة معينة، فيتدرج بادئًا بالتصوير ثم التكييف ثم الحكم ثم التدليل ثم التتريل. وقد انتجت إدارة الأبحاث الشرعية على مدار هذه السنوات القليلة مجموعة من الأبحاث الفقهية والأصولية بلغت قرابة الستين بحثًا فى موضوعات مختلفة فى العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات والمسائل الطبية وأصول الفقه وغيرها، مثل: مصرف فى سبيل الله، ورتق غشاء البكارة، وتحريف كلمة الطلاق، والتورق الفقهى والتورق المصرفي، وإسلام الزوجة وبقاء الزوج على دينه، وتأجير الأرحام، ونقل الأعضاء، وقطع اليد عن الملك، ومفتى الضرورة، والتسوية بين الأبناء فى الهبات والعطايا. ومن هذه الأبحاث ما شاركت به الدار فى بعض المؤتمرات الفقهية العالمية - كمؤتمر مجمع الفقه الإسلامى بالهند - ومنها ما تم تحكيمه ونشره فى مجلة دار الافتاء العلمية المحكمة، ومنها ما تم بثه عبر شبكة المعلومات الدولية، وقد أبدى العلماء الكبار اعجابهم بما طالعوه منها وأثنوا عليه، حتى إن ذلك الأخير لما طالعه السيد عمر الجيلانى أحد أعيان الفقهاء الشافعية فى مكةالمكرمة قال: «إنى أحمد الله أن بقى فى الأمة من يكتب كالأقدمين». وأما فى جانب الفتاوى البحثية المؤصلة فقد أخرجت الإدارة حتى الآن ما يقرب من خمسمائة فتوي، منها: التوائم الملتصقة، وتوسعة المسعي، وحدود ولاية الأب على ابنته، وتغيير المسلك فى الفتوي، واستعمال أسلحة الدمار الشامل، والعمليات التفجيرية، وطلاق الولى زوجة المحجور عليه لجنون، واستعمال الحساب الفلكى فى تحديد أوائل الشهور، ونقل مقابر القاهرة، وبعض هذه الفتاوى اطلع عليها مجمع البحوث الإسلامية حيث كانت محولة من اللجنة الفقهية به إلى دار الافتاء للاختصاص، ونالت منه التقدير والثناء الحسن، حتى إنهم أوصوا بطباعة أحدها كملحق لمجلة الأزهر. هذا كله إلى جانب بعض الأنشطة الفرعية التى ساهمت الإدارة فيها بجهد مشكور وانتاج بارز فى مجال الرد على الشبهات المثارة ضد الإسلام فى العقائد والأحكام، ومجال الكتابة فى بعض القضايا الفكرية المعاصرة، وكذلك فى مجال الأخلاق والقيم، بالاضافة إلى الترجمة والتأريخ لما يزيد على مائة شخصية علمية من شيوخ الأزهر والمفتين وأصحاب المؤلفات المعتمدة كمقررات دراسية فى الأزهر الشريف. والحاصل: أن إدارة الأبحاث الشرعية قد أصبحت ركنًا ركينًا من منظومة العمل فى دار الافتاء المصرية بما تقدمه من إنتاج علمى رصين يثرى العمل البحثى ويؤصل لصنعة الإفتاء.