فعلا الشعب المصري شعب عجيب.. وفريد!! وهو يعرف كيف يضحك في عز المأساة، وقد سمعنا مئات النكات والقفشات خلال الأحداث العظيمة لعل أكثرها سخرية تلك التي تقول: ارحل بقي.. عايز أحلق دقني!! كأن مصير الرئيس مرهون بوقت يستطيع فيه هذا الشاب ان يحلق ذقنه!! وإذا كانت قد ظهرت صناعات وتجارات عديدة خلال نفس هذه الاحداث مثل صناعة وتجهيز الاعلام الوطنية.. إلا ان البعض أحس بحاجة مئات الألوف من المتظاهرين الي الطعام.. فاشتري كمية من الخبز.. وكمية من الجبن الأبيض أو الرومي أو المثلثات أو كمية من الطعمية الجاهزة وشوية طرشي وحزمتين فجل وجرجير وأخذ يطوف وسط المتظاهرين.. ليكسب رزقه.. بل ووجدنا من حمل عدة الحلاقة وجلس يقدم خدماته من قص الشعر أو حلق الذقن ولا أنسي صورة الشاب الصعيدي الذي جاء يعمل وسط عمال التراحيل.. فلما جرفته الاحداث اشتري كيس عيش بلدي وشوية مش أصفر تقيل.. وجلس يبيع ساندويتش المش بنصف جنيه. ** كان هذا أيام الاعتصامات والمظاهرات.. وكانت لها ظروفها ومتطلباتها.. ووقتها.. أما الأمر اللافت للنظر فهو ما يجري الآن علي كورنيش النيل بالقاهرة - في المنطقة الممتدة من كوبري قصر النيل جنوباً وحتي كوبري 15 مايو شمالاً نشأ نوع من النشاط، بدأ علي استحياء بسيطاً ثم توسع وامتد.. وكنت أراقب ذلك كلما ذهبت - أو خرجت من مبني التليفزيون - وهذه مسافة طويلة كنت مضطراً للدواعي الامنية لقطعها مشياً وكنت أراها وابتسم.. فما يجري يستحق التسجيل.. لأنها لا تحدث الا لماماً.. وربما كل نصف قرن علي الأقل. ** في البداية تلك الأسر الصغيرة العدد: الأب والأم وولد وبنت كلاهما دون الخامسة.. الأب يحمل ابنه ويرفعه فوق احدي الدبابات والأم ترجو أحد الجنود ان يحمل عنها ابنتها لتقف تحت مدفع الدبابة.. وهات يا تصوير.. البعض بما يملكه من كاميرات.. والبعض استخدم كاميرات التليفون المحمول.. الكل يسجل صورة سيحتفظ بها لأولاده والجندي يبتسم بحنو رائع ودافئ ويسند الطفل أو الصغيرة.. ولن ينسي هذا الطفل تلك الصورة أبداً وستظل في ذاكرته إلي الأبد. ولكن ما لفت نظري وشدني تلك »السويقة« الجميلة رغم مخالفتها لكل القواعد الأمنية وغيرها.. إذ علي هذا الكورنيش يزاول المصري بيع أنواع عديدة .. وضرورية. ** وهناك »سويقة نهارية« أو تنتشر في الصباح وحتي الظهيرة و»سويقة مسائية« تبدأ من السادسة مساء وحتي قبيل حظر التجول بقليل.. وسويقة ما بين السويقتين!! في السويقة الصباحية نجد باعة السندويتشات »للترويقة.. اي لزوم الافطار.. وهي إما جافة من جبن وحلاوة أو ساخنة مثل الفول المدمس والطعمية السخنة، أي والله ساخنة.. وجردل الطرشي تحت يد البائع.. وزجاجة الزيت وأخري لعصير الليمون. أما السويقة المسائية فهي تختلف. فيها التسالي هو الأهم .. عربيات حمص الشام، أو كما يسميها اهل القاهرة »الحلبسة« ويا سلام بالشطة والليمون.. وهناك عربيات تبيع الحلبة والترمس.. ولا ننسي عربة ومعدات صناعة الفشار أو غيرها التي تشوي عيدان الاذرة فضلاً عن صفوف من الكراسي لهواة شرب الشاي والشيشة - أي والله - والكثير من المشروبات الدافئة.. وشدتني عربة تبيع البليلة!! ونصبات تبيع اللب والسوداني.. وكله مكسب!! ** وما بين هذه وتلك انتشر الباعة الجائلون يبعون كل شيء بداية من الولاعات وحجر البطاريات والساعات والأقلام والمهم ان لا أحد يفاصل في الثمن أو يساوم.. ولكنني وقفت طويلاً امام باعة الاعلام.. وهم موجودون علي طول الكورنيش .. كأن المواطن يريد علماً للذكري وللتاريخ ليتذكر ما جري ويجري ويروي تفاصيل ما حدث لاطفاله، عندما يكبرون.. وبجانب حملة الاعلام هناك من يبيع ميداليات من قماش مقوي علي هيئة علم مصر يتم مسكها باليد.. وتعليقها علي الرقبة وهكذا.. واللافت للنظر - رغم اختلاط الشبان بالبنات إلا أنه ليست هناك حادثة واحدة لأي تحرش.. رغم غياب الشرطة الذي طال عن الشارع المصري. ** وهذا الشعب العظيم هو الذي خلق هذا النشاط التجاري ولكن ما شدني أنني لم أجد بائعاً واحداً للصحف علي طول هذه المسافة حتي في الصباح.. ربما لأن المصري يعيش بالفعل هذه الاحداث العظيمة.. ويراها بعينيه، ولا يحتاج لمن يذكره بها. »حقاً: تعظيم سلام شعب مصر«