قبل بدء الإنتخابات البرلمانية فى مصر كان حزب " الحرية والعدالة " الجناح السياسى لجماعة الإخوان المسلمين يعلن دائماً وبصوت عالٍ إنه يسعى إلى المشاركة ولا يبتغى المغالبة ، بل وحدد نسباً مقبولة جداً لمشاركته ، وأعلن وكرر أنه لن يسعى إلى كرسى الرئاسة فى هذه المرحلة . وجاءت نتيجة الإنتخابات لتعلن عن مغالبة واضحة ، وإلتمس المفسرون الأسباب والمبررات لذلك ومنها ضعف بقية التيارات السياسية التى إكتفت بالظهور الإعلامى وهو غير كاف للنجاح فى الإنتخابات ، أو إنشغلت بالمليونيات وهى أيضا لاتخلق قاعدة شعبية إنتخابية ، وإعتبرنا أن تلك النتيجة جاءت ثمرة جهد هذا التيار ، وغضضنا البصر جميعا عن الأساليب الإنتخابية المستخدمة وإستغلال حاجة الناس الشديدة ، وأغفلنا عدم الوعى السياسى المتفشى فى المجتمع ، وتناسينا الضعف الشعبى أمام كل من يتحدث باسم الدين ، ولم نسأل عن الأموال الطائلة المستخدمة فى الدعاية . ومرت شهور لم نجد فيها داخل البرلمان ما يهم المواطن من مشروعات أو حلولاً عملية لمشكلاته . ثم بدأت معركة الحزب الغالب مع الحكومة ، والتى لايجد لها الكثير من المحللين السياسيين أى مبرر ، خاصة وأن ما تبقى من عمر هذه الحكومة وفقا لخارطة الطريق سوى أيام معدودات ، وهذا ليس معناه الرضا عن أداء هذه الحكومة التى آثر رئيسها أن تكون حكومة وكلاء الوزارة ، حتى وإن كان بعضهم لايسمح له تاريخه بإعتلاء كرسى الوزارة ، وقد قبلتموها وقبلناها ، وبدلا من أن يكون نهجكم فى التعامل مع الحكومة نهجا حوارياً ومنهجاً تكاملياً ، إخترتم منهج المهاجمة وفى بعض الأحيان تطاول أعضاء مجلسكم على بعض أعضاء الحكومة ، وهو منهج تعامل مرفوض بين أطراف تمثل النخبة السياسية ، ثم علت نبرة إقالة الحكومة وسحب الثقة منها ، وبإصرار شديد يبعث على الشك فى النوايا ، فالمنطق السياسى البسيط يقول ضعوا توجهاتكم أمام الحكومة وإعلموا إمكانياتها ، ودعوها تعمل فى هذه الأجواء غير العادية التى تمر بها البلاد ، ودعونا نلتفت للخطوات المتبقية حتى نصل إلى نهاية الطريق بسلام ، إلا أن هذا المنطق لم يجد له طريقاً لديكم وزاد إصراركم على تغيير الحكومة ، بما يعنى لدى المتابعين أنكم تسعون لتحقيق أهداف لايعلمها سواكم ، أو أن خلافات نشبت بينكم لانعلم أسبابها ولكن نلحظ تداعياتها . وقبل ان تنتهى موقعتكم مع الحكومة أشعلتم أزمة أشد بأساً ، وهى اللجنة التأسيسية للدستور ، وكان تشكيلكم لهذه اللجنة صفعة قوية للقوى السياسية وصدمة شديدة للشعب كله ، وبنفس الإصرار تستمرون وتمضون فى طريقكم الذى لايسع سواكم ولايقبل غيركم ، لقد عبر تشكيلكم لهذه اللجنة عن تعالِ واضح على بقية القوى السياسية ، وأنانية مفرطة فى التعامل مع الآخرين ، وإهمال شديد لصالح الوطن . الدستور يا سادة لاتصنعه أغلبية ، ولا هو نتاج فكر فصيل بعينه ، لقد تناسيتم أن لكم شركاء فى الوطن ، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ، هم فقط يختلفون فى شرائعهم وشعائرهم ، ودستور الوطن لابد أن يضمن لهم ذلك وفق رؤيتهم وفى إطار الوطن الواحد ، وذلك لايكون إلا بتمثيلهم تمثيلاً موضوعياً داخل هذه اللجنة ، ولقد تناسيتم أن لكم شركاء فى الفكر ، فالتيارات السياسية المصرية متعددة ، وتمتد من اليمين إلى اليسار ، ولهم الحق جميعاً أن يكون لهم صوتهم داخل اللجنة ، ولقد تناسيتم أن مصر عامرة بفئات مجتمعية وطوائف سكانية وتوجهات ثقافية متعددة ، لابد لها جميعاً أن تعبر عن نفسها أو يُعبَر عنها داخل هذه اللجنة ، لنصل فى النهاية إلى دستور وطن كامل ، وليس لائحة تنفيذية أو رؤية حزبية تحمل توجهاً أحادياً لفصيلِ واحد . وجاءت الصدمة الكبرى فى إعلانكم الدخول فى سباق الرئاسة بمرشح من لدنكم ، هذا السباق الذى أعلنتم مراراً وتكراراً أنكم لن تخوضوه ، وما يلفت الإنتباه فى هذا الأمر ، أن إعلانكم عن المرشح الرئاسى جاء من خلال الجماعة وليس الحزب وحده ، مع أن الأحزاب السياسية هى المخول لها هذا الحق ، ومن دونها يكون مرشحاً مستقلاً ، فها أنتم تعلنون مرشحاً سياسياً لجماعة " دعوية " ، وهو تصنيف جديد لمرشحى الرئاسة ، وإعلانكم بهذا الشكل يلغى أى فصل بين الجماعة والحزب ، حيث أن الإشكالية الأكثر تعقيداً هى أيهما الأعلى سلطة لديكم : المرشد العام للجماعة التى إختارت المرشح أم نائب المرشد الذى سيكون رئيساً للجمهورية ؟ وأيهما سيكون له الولاية على الآخر ؟ وهل ستكون الدولة هى الحاكمة للجماعة أم تستحوذ الجماعة على حكم البلاد ؟ ووقتها لاقدر الله أين سيكون مقر الخلافة : مصر أم تركيا أم قطر ! لقد عانى الشعب كثيراً من تزاوج الثروة والسلطة فى النظام السابق ، وأنتم الآن تدعون الثروة لتعقدوا عليها عقداً شرعياً من وجهة نظركم على أعلى سلطة فى البلاد ، وكأنكم لم تتعظوا من دروس الماضى القريب . إن هذا السعى الحثيث نحو الإستحواذ على كل السلطات إستعدى جميع التيارات السياسية والفكرية ، ودق ناقوس الخطر فى آذان الشعب بأكمله ، هذا الشعب الذى يرفض بشدة إستحواذكم أو إستحواذ غيركم على كل السلطات ، ويرفض إقصاءكم لبقية الأطراف ، ويرفض إنتهاجكم لنهج نظام سابق سعى نفس سعيكم ، وتعلمون حصاده ومصيره . لقد تخطيتم مرحلة المشاركة سريعاً إلى مرحلة المغالبة ، والآن تقفزون بشكل أسرع إلى مرحلة الإستحواذ ، فما يحدث الآن لايعنى سوى رغبتكم الجامحة فى الإستحواذ على هذا البلد الأمين . إن تلك التصرفات التى تقترفوها جعلت الشعب يفيق ، ويصل إلى لحظة المراجعة فى وقت أقرب بكثير من كل التوقعات ليقارن أقوالكم بأفعالكم ، وليراجع تنفيذكم لعهودكم ، وليختبر مصداقيتكم ، تلك المصداقية التى هى حجر الزاوية فى عملية الثقة السياسية التى يمنحها الشعب لأى تيارسياسى يختاره ، فإذا إهتزت المصداقية وتراجعت ، إختلت الثقة وتلاشت ، وعندئذ تكون الخسارة السياسية فادحة ويصعب تعويضها . إن الشعب المصرى يرفض الصوت السياسى الواحد لأنه عانى منه كثيراً وعانيتم معه ، ويبغض تزاوج الثروة والسلطة لأنه مازال يعانى من تبعاته وتعلمون ذلك جيدا ، فإن أصررتم على المضى فى توجهاتكم ، ستصلون بالبلد إلى نقطة ما دون الصفر ، ولن يغفر الشعب والتاريخ لمن يسوق الوطن لهذا المصير ، لاقدر الله ، و ندعو الله مخلصين أن يحفظ الوطن من كل سوء ويقيه شر كل الفتن ويحفظه من كل الأطماع .