لجان ترشيح المتقدمين لمنصب العميد بكليات ومعاهد جامعة القاهرة تنهي أعمالها    أسبوع الحسم، آخر مستجدات قانون الإيجار القديم    مدير الإغاثة الطبية بغزة: 17 ألف طفل يعانون من سوء تغذية شديد    تشكيل ليفربول المتوقع أمام ميلان    تجديد حبس سائق بتهمة سرقة 6 ملايين جنيه من مالك شركة يعمل بها بالعمرانية    الأرصاد تحذر من ذروة موجة حارة تضرب القاهرة    مطار مرسى علم يستقبل 184 رحلة من 15 دولة أوروبية الأسبوع الجاري    «موعد أذان المغرب».. مواقيت الصلاة اليوم السبت 26 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    كيم جونج أون لجيشه: يجب الإستعداد ل«حرب حقيقية في أي وقت»    الكونجرس الأمريكي: 75% من سكان غزة يواجهون مجاعة عقب الحصار الذي فرضه نتنياهو    قائمة الجامعات الأهلية المعتمدة في تنسيق 2025.. دليل شامل للطلاب الجدد    تنسيق 2025.. موعد المرحلة الأولى لطلاب الثانوية العامة وأسماء الكليات المتاحة لكل شعبة (تصريحات خاصة)    أسعار الخضروات اليوم السبت 26 يوليو في سوق العبور للجملة    حالة المرور اليوم، سيولة مرورية نسبية وأحجام محدودة في محاور القاهرة الكبرى    تعرف شخصية ليلى زاهر في مسلسل وادي وبنت وشايب    تعرف على موعد عرض أولى حلقات مسلسل « قهوة 2» ل أحمد فهمي    توفيق الحكيم، كره المرأة بسبب هدى شعراوي وعبد الناصر كان يعتبره "الأب الروحي"    «لو ابنك بلع مياه من حمام السباحة؟».. خطوات فورية تحميه من التسمم والأمراض    «خبراء يحذرون»: لا تغلي «الشاي مع الحليب» لهذا السبب    «لماذا ينصح بتناول لحم الديك الرومي؟»... فوائد مذهلة لهذه الفئات    الدفاع الألمانية تستعين بأسراب «صراصير» للتجسس والإستطلاع    رابطة الأندية توجه الدعوة لأبو ريدة لحضور قرعة الدوري    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    أسفار الحج (9).. زمزم والنيل    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو 2025.. الجنيه الذهب ب37040 جنيها    الأهلى يزاحم الهلال على ضم نونيز من ليفربول    خدمة جوجل فوتو تضيف أدوات لتحويل الصور القديمة إلى مقاطع فيديو متحركة    أبو حلاوة يا تين.. عم محمود أقدم بائع تين شوكى فى مصر عمره 65 سنة.. فيديو    3 مكاسب الأهلي من معسكر تونس    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    بعد أزمات فينيسيوس جونيور، هل يتحقق حلم رئيس ريال مدريد بالتعاقد مع هالاند؟    «سبوتيفاي وأنغامي» يكشفان عن صاحب المركز الأول.. عمرو دياب أم تامر حسني؟    2 مليار جنيه دعم للطيران وعوائد بالدولار.. مصر تستثمر في السياحة    رحيل نجم بيراميدز بسبب صفقة إيفرتون دا سيلفا (تفاصيل)    موعد مباراة ليفربول وميلان الودية اليوم والقنوات الناقلة    «هيسجل إمتى بعيدًا عن ضربات الجزاء؟».. تعليق مثير من الغندور بشأن زيزو مع الأهلي    إعلام فلسطيني: 4 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف شقة سكنية غرب غزة    إيطاليا: الاعتراف بدولة فلسطين ليس ممكنا إلا باعترافها بإسرائيل    برج الحوت.. حظك اليوم السبت 26 يوليو: رسائل غير مباشرة    بالصور.. تشييع جثمان والد «أطفال دلجا الستة» في ليلة حزينة عنوانها: «لقاء الأحبة»    «مش عارف ليه بيعمل كده؟».. تامر حسني يهاجم فنانا بسبب صدارة يوتيوب .. والجمهور: قصده عمرو دياب    هآرتس: ميليشيات المستوطنين تقطع المياه عن 32 قرية فلسطينية    "مستقبل وطن دولة مش حزب".. أمين الحزب يوضح التصريحات المثيرة للجدل    رد ساخر من كريم فؤاد على إصابته بالرباط الصليبي    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق كابينة كهرباء بشبرا| صور    فلسطين.. شهيدة وعدة إصابات في قصف إسرائيلي على منزل وسط غزة    بيان من المستشار القانوني لنقابة الموسيقيين للرد على الناقد طارق الشناوي بعد أزمة راغب علامة    مستشفى الناس تطلق خدمة القسطرة القلبية الطارئة بالتعاون مع وزارة الصحة    حماس: لم نُبلغ بوجود أي إشكال بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ونستغرب تصريحات ترامب    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر سواء بسواء والادعاء بحِلِّه خطأ فادح    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير (تفاصيل)    قفزة في أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 26 يوليو 2025    رفعت فياض يكتب: نصيحتي لكل الناجحين في الثانوية العامة.. لا تلتحق بأي كلية استخسارًا للمجموع أو على غير رغبتك    جامعة دمنهور الأهلية تعلن فتح باب التسجيل لإبداء الرغبة المبدئية للعام الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حمى الله أقباط مصر من نصائح البطريرك الراعي
نشر في الوفد يوم 19 - 03 - 2012

«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة - 82).
الأشهر القليلة الماضية كانت صعبة على أهلنا الأقباط في مصر. فالتيار الإسلامي، بوجهيه الإخواني والسلفي، حصل على تفويض شعبي كاسح في أول انتخابات عامة بعد «ثورة يناير (كانون الثاني)» 2011. وها هم يفقدون بالوفاة البابا شنودة الثالث الذي يعد بكل المقاييس أحد أبرز من تولى بطريركية الكرازة المرقسية التي تمثل أكبر طائفة مسيحية في العالم العربي. ومع أن الموت حق، فإن من المفارقات المؤلمة - على أكثر من صعيد - أن يتوفى البابا شنودة خلال ساعات قليلة من بدء رأس كنيسة مشرقية أخرى هو البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بطريرك الموارنة، أول زيارة له بهذه الصفة إلى مصر.
موقع الموارنة في لبنان بالذات، وبلاد الشام إلى حد ما، فرض دائما على البطريرك الماروني لعب دور سياسي نشط. ومكانة الأقباط في مصر أيضا تجعل من بابا الإسكندرية مرجعية لها وزنها السياسي وأهميتها الوطنية في الحياة السياسية للمصريين. بل، في حين اعتبر الموارنة أنفسهم «ضمير لبنان» و«علة وجوده» و«مبرر بقائه»، فإن خير تعبير عن العلاقة العضوية بين الأقباط ومصر قول البابا شنودة «مصر تعيش فينا أكثر مما نعيش فيها».
ولكن هاتين الجماعتين المسيحيتين اللتين جبلتا عبر القرون في تراب بلاد الشام وأرض الكنانة، نجحتا في البقاء قوتين نابضتين بالحياة والقدرة على التجدد عبر نحو 1400 سنة من الحضور الإسلامي، ليس بلجوئهما إلى التقوقع والانعزال والهروب إلى الخوف، بل بفضل اختيارهما الريادة والتفاعل الإيجابي... وهو ما ظهر عند منعطفات عديدة في تاريخ الشرق الأوسط.
لقد كان للموارنة، والمسيحيين المشرقيين عموما، الريادة في حماية اللغة العربية وإثرائها إبان فترات الحكم العثماني الممتد لأربعة قرون (بين 1516 م و1918 م) وهذه حقيقة لا يجوز إغفالها والتقليل من شأنها، تماما كما لا يصح التقليل من شأن إسهام عدد كبير من مفكريهم وساستهم في الحركات والتيارات الوطنية العاملة على التفاعل الإيجابي مع البيئة الإسلامية الكبيرة الحاضنة، مع إغناء التنوع والتسامح في رحابها. والشيء نفسه ينطبق على الأقباط، الذين رفضوا الهيمنة الدينية الخارجية على كنيستهم منذ ما قبل الفتح الإسلامي، وكان لهم في النضال الوطني الاستقلالي الوطني ضد الاستعمار الغربي، إسهام عظيم تجسد في الحركة الوفدية عبر شخصيات من وزن مكرم عبيد وويصا واصف وواصف غالي وسينوت حنا وغيرهم. وكان أحد أهم المواقف التي تنم عن عمق وعي القيادات القبطية العاقلة معارضة البابا شنودة زيارة الرئيس المصري السابق الراحل أنور السادات للقدس المحتلة وتحفظه عن التطبيع مع إسرائيل.
هذه المقدمة لا بد منها، لتسليط الضوء على التحدي الكبير الذي يواجهه مسيحيو الشرق العربي هذه الأيام في ظل «الصحوة الإسلامية» التي نشهد راهنا بعد إطلالة «الربيع العربي».
أصلا، ما كان على مسيحيي المنطقة الوقوف مرتبكين أو متوجسين خيفة عندما كانوا يعيشون في مجتمع لا تقوم خياراته السياسية الأساسية على الهوية الدينية وشرعية هذه الهوية. فالنضال من أجل الاستقلال والتحرر من «الهيمنة الخارجية» - بمختلف أشكالها - كان عابرا للطوائف الدينية، والتنظيمات السياسية الوطنية التي قامت في المنطقة من العراق شرقا إلى مصر غربا تجاوزت الاصطفاف الديني أو المذهبي من أجل النضال المشترك ضد خصم مشترك.
وفي فترة من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي مع تبلور المفاهيم القومية انخرط كثرة من المسلمين في الحركات المنادية بالاستقلال عن الدولة العثمانية الإسلامية بعدما غلب عليها «التتريك»، ومثلهم انخرط كثرة من المسيحيين في التيارات المناوئة للنفوذين البريطاني والفرنسي المسيحيين، وتعزز هذا التوجه وتبلور تماما في الثلث الأول من القرن العشرين. ومن ثم، بعد تطور شكل الصراع السياسي الدولي بين اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، تراجع أكثر اضطرار المسلمين والمسيحيين للتمسك بما يفرقهم دينيا، فكانت الأحزاب اليمينية واليسارية - وطبعا القومية - في المشرق العربي تضم في صفوفها المسلمين والمسيحيين بشتى مذاهبهم وطوائفهم.
في مصر وبلاد الشام، يجوز لنا رصد بداية الفرز مع سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي اليميني – اليساري» على الحلبة السياسية بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967، ومن ثم، توقيع مصر اتفاقات كامب ديفيد، ووصولا إلى انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي.
سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي» شكل بداية السير باتجاه إيجاد «شرعية سياسية» جديدة بديلة للسلطة، وحقا أدت هذه البدائل لاحقا إلى تعميق الشرخ الديني والمذهبي.
كانت البدايات في مصر مع دفاع الرئيس السادات عن خياراته التطبيعية مع إسرائيل، ورفعه شعارات «الكيانية المصرية» ضد «العبء العربي»، واستغلاله رموز «الإسلام السياسي» على شاكلة ترويج لقب «الرئيس المؤمن» واستخدامه اسم التبريك قبل اسمه. ثم دخوله مواجهة مفتوحة مع القيادة القبطية بعد معارضتها كامب ديفيد وزيارته لإسرائيل، والتعامل بطريقة سلبية مع الاحتكاكات ذات الطابع الديني ومنها «حادثة الزاوية الحمراء» عام 1981.
وفي سوريا والعراق تحول حزب البعث العربي الاشتراكي المسيطر على البلدين، بعدما كان عند تأسيسه حزبا قوميا وعلمانيا ذا شعارات اشتراكية، إلى طغمتين عائليتين طائفيتين فاسدتين نهبتا البلدين وأبقتاهما لعقود في حال من العداء الوجودي. وفي لبنان تضافر مناخ ما بعد نكسة حزيران 1967 وتنامي الوجود المسلح للمقاومة الفلسطينية على أرضه بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 1970 إلى تفاقم الفرز السياسي بين المسلمين والمسيحيين، قبل أن يتحول بعد 1990 في ظل الهيمنة السورية إلى توتر خطير بين السنة والشيعة.
أما في فلسطين، فكان بديهيا ارتفاع أسهم الصوت الإسلامي الجهادي في وجه مشروع توراتي فاشي يشكله اليمين الإسرائيلي في ظل يأس الفلسطينيين من متاجرة الأنظمة العربية بقضيتهم، وانهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان رافدا آيديولوجيا ولوجستيا لها.
اليوم، بعد انطلاق «الربيع العربي» من تونس، وإعطاء تونس الخيار الإسلامي تفويضا سياسيا محدودا ومشروطا.. جاء الخيار في مصر قويا وضاغطا إلى حد قد يشكل خطرا على الإسلاميين بالقدر نفسه الذي من الواضح أنه يشكله على باقي مكونات المجتمع، ومنهم الأقباط. ويشاء القدر أن يغيب البابا شنودة إبان زيارة البطريرك الراعي لمصر.
هنا في هذه اللحظات أتمنى، كما يتمنى كل من يريد الخير لمصر بأقباطها ومسلميها، أن تكرم مصر ضيفها الجليل بكل شيء... إلا الإصغاء إلى فكره السياسي.
فالبطريرك الراعي، كما تدل أقواله ومواقفه، مقتنع تماما بنظرية «تحالف الأقليات» ضد «الإسلام السياسي»، وبالتالي، بمهادنة الأنظمة التسلطية... متجاهلا حقيقة أن هذه الأنظمة، مثل «المافيات»، في صميم تكتيكها تخويف الناس ومن ثم استغلال خوفهم.
إنها نظرية انتحارية في بلد متنوع مثل لبنان، فهل لنا أن نتصور ترجمة أبعادها العدائية في بلد مثل مصر يشكل المسلمون السنة نحو 90 في المائة من سكانه؟
حمى الله أقباط مصر من نصائح البطريرك الراعي
«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة - 82)
الأشهر القليلة الماضية كانت صعبة على أهلنا الأقباط في مصر. فالتيار الإسلامي، بوجهيه الإخواني والسلفي، حصل على تفويض شعبي كاسح في أول انتخابات عامة بعد «ثورة يناير (كانون الثاني)» 2011. وها هم يفقدون بالوفاة البابا شنودة الثالث الذي يعد بكل المقاييس أحد أبرز من تولى بطريركية الكرازة المرقسية التي تمثل أكبر طائفة مسيحية في العالم العربي. ومع أن الموت حق، فإن من المفارقات المؤلمة - على أكثر من صعيد - أن يتوفى البابا شنودة خلال ساعات قليلة من بدء رأس كنيسة مشرقية أخرى هو البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بطريرك الموارنة، أول زيارة له بهذه الصفة إلى مصر.
موقع الموارنة في لبنان بالذات، وبلاد الشام إلى حد ما، فرض دائما على البطريرك الماروني لعب دور سياسي نشط. ومكانة الأقباط في مصر أيضا تجعل من بابا الإسكندرية مرجعية لها وزنها السياسي وأهميتها الوطنية في الحياة السياسية للمصريين. بل، في حين اعتبر الموارنة أنفسهم «ضمير لبنان» و«علة وجوده» و«مبرر بقائه»، فإن خير تعبير عن العلاقة العضوية بين الأقباط ومصر قول البابا شنودة «مصر تعيش فينا أكثر مما نعيش فيها».
ولكن هاتين الجماعتين المسيحيتين اللتين جبلتا عبر القرون في تراب بلاد الشام وأرض الكنانة، نجحتا في البقاء قوتين نابضتين بالحياة والقدرة على التجدد عبر نحو 1400 سنة من الحضور الإسلامي، ليس بلجوئهما إلى التقوقع والانعزال والهروب إلى الخوف، بل بفضل اختيارهما الريادة والتفاعل الإيجابي... وهو ما ظهر عند منعطفات عديدة في تاريخ الشرق الأوسط.
لقد كان للموارنة، والمسيحيين المشرقيين عموما، الريادة في حماية اللغة العربية وإثرائها إبان فترات الحكم العثماني الممتد لأربعة قرون (بين 1516 م و1918 م) وهذه حقيقة لا يجوز إغفالها والتقليل من شأنها، تماما كما لا يصح التقليل من شأن إسهام عدد كبير من مفكريهم وساستهم في الحركات والتيارات الوطنية العاملة على التفاعل الإيجابي مع البيئة الإسلامية الكبيرة الحاضنة، مع إغناء التنوع والتسامح في رحابها. والشيء نفسه ينطبق على الأقباط، الذين رفضوا الهيمنة الدينية الخارجية على كنيستهم منذ ما قبل الفتح الإسلامي، وكان لهم في النضال الوطني الاستقلالي الوطني ضد الاستعمار الغربي، إسهام عظيم تجسد في الحركة الوفدية عبر شخصيات من وزن مكرم عبيد وويصا واصف وواصف غالي وسينوت حنا وغيرهم. وكان أحد أهم المواقف التي تنم عن عمق وعي القيادات القبطية العاقلة معارضة البابا شنودة زيارة الرئيس المصري السابق الراحل أنور السادات للقدس المحتلة وتحفظه عن التطبيع مع إسرائيل.
هذه المقدمة لا بد منها، لتسليط الضوء على التحدي الكبير الذي يواجهه مسيحيو الشرق العربي هذه الأيام في ظل «الصحوة الإسلامية» التي نشهد راهنا بعد إطلالة «الربيع العربي».
أصلا، ما كان على مسيحيي المنطقة الوقوف مرتبكين أو متوجسين خيفة عندما كانوا يعيشون في مجتمع لا تقوم خياراته السياسية الأساسية على الهوية الدينية وشرعية هذه الهوية. فالنضال من أجل الاستقلال والتحرر من «الهيمنة الخارجية» - بمختلف أشكالها - كان عابرا للطوائف الدينية، والتنظيمات السياسية الوطنية التي قامت في المنطقة من العراق شرقا إلى مصر غربا تجاوزت الاصطفاف الديني أو المذهبي من أجل النضال المشترك ضد خصم مشترك.
وفي فترة من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي مع تبلور المفاهيم القومية انخرط كثرة من المسلمين في الحركات المنادية بالاستقلال عن الدولة العثمانية الإسلامية بعدما غلب عليها «التتريك»، ومثلهم انخرط كثرة من المسيحيين في التيارات المناوئة للنفوذين البريطاني والفرنسي المسيحيين، وتعزز هذا التوجه وتبلور تماما في الثلث الأول من القرن العشرين. ومن ثم، بعد تطور شكل الصراع السياسي الدولي بين اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، تراجع أكثر اضطرار المسلمين والمسيحيين للتمسك بما يفرقهم دينيا، فكانت الأحزاب اليمينية واليسارية - وطبعا القومية - في المشرق العربي تضم في صفوفها المسلمين والمسيحيين بشتى مذاهبهم وطوائفهم.
في مصر وبلاد الشام، يجوز لنا رصد بداية الفرز مع سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي اليميني – اليساري» على الحلبة السياسية بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967، ومن ثم، توقيع مصر اتفاقات كامب ديفيد، ووصولا إلى انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي.
سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي» شكل بداية السير باتجاه إيجاد «شرعية سياسية» جديدة بديلة للسلطة، وحقا أدت هذه البدائل لاحقا إلى تعميق الشرخ الديني والمذهبي.
كانت البدايات في مصر مع دفاع الرئيس السادات عن خياراته التطبيعية مع إسرائيل، ورفعه شعارات «الكيانية المصرية» ضد «العبء العربي»، واستغلاله رموز «الإسلام السياسي» على شاكلة ترويج لقب «الرئيس المؤمن» واستخدامه اسم التبريك قبل اسمه. ثم دخوله مواجهة مفتوحة مع القيادة القبطية بعد معارضتها كامب ديفيد وزيارته لإسرائيل، والتعامل بطريقة سلبية مع الاحتكاكات ذات الطابع الديني ومنها «حادثة الزاوية الحمراء» عام 1981.
وفي سوريا والعراق تحول حزب البعث العربي الاشتراكي المسيطر على البلدين، بعدما كان عند تأسيسه حزبا قوميا وعلمانيا ذا شعارات اشتراكية، إلى طغمتين عائليتين طائفيتين فاسدتين نهبتا البلدين وأبقتاهما لعقود في حال من العداء الوجودي. وفي لبنان تضافر مناخ ما بعد نكسة حزيران 1967 وتنامي الوجود المسلح للمقاومة الفلسطينية على أرضه بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 1970 إلى تفاقم الفرز السياسي بين المسلمين والمسيحيين، قبل أن يتحول بعد 1990 في ظل الهيمنة السورية إلى توتر خطير بين السنة والشيعة.
أما في فلسطين، فكان بديهيا ارتفاع أسهم الصوت الإسلامي الجهادي في وجه مشروع توراتي فاشي يشكله اليمين الإسرائيلي في ظل يأس الفلسطينيين من متاجرة الأنظمة العربية بقضيتهم، وانهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان رافدا آيديولوجيا ولوجستيا لها.
اليوم، بعد انطلاق «الربيع العربي» من تونس، وإعطاء تونس الخيار الإسلامي تفويضا سياسيا محدودا ومشروطا.. جاء الخيار في مصر قويا وضاغطا إلى حد قد يشكل خطرا على الإسلاميين بالقدر نفسه الذي من الواضح أنه يشكله على باقي مكونات المجتمع، ومنهم الأقباط. ويشاء القدر أن يغيب البابا شنودة إبان زيارة البطريرك الراعي لمصر.
هنا في هذه اللحظات أتمنى، كما يتمنى كل من يريد الخير لمصر بأقباطها ومسلميها، أن تكرم مصر ضيفها الجليل بكل شيء... إلا الإصغاء إلى فكره السياسي.
فالبطريرك الراعي، كما تدل أقواله ومواقفه، مقتنع تماما بنظرية «تحالف الأقليات» ضد «الإسلام السياسي»، وبالتالي، بمهادنة الأنظمة التسلطية... متجاهلا حقيقة أن هذه الأنظمة، مثل «المافيات»، في صميم تكتيكها تخويف الناس ومن ثم استغلال خوفهم.
إنها نظرية انتحارية في بلد متنوع مثل لبنان، فهل لنا أن نتصور ترجمة أبعادها العدائية في بلد مثل مصر يشكل المسلمون السنة نحو 90 في المائة من سكانه؟
حمى الله أقباط مصر من نصائح البطريرك الراعي
«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة - 82)
الأشهر القليلة الماضية كانت صعبة على أهلنا الأقباط في مصر. فالتيار الإسلامي، بوجهيه الإخواني والسلفي، حصل على تفويض شعبي كاسح في أول انتخابات عامة بعد «ثورة يناير (كانون الثاني)» 2011. وها هم يفقدون بالوفاة البابا شنودة الثالث الذي يعد بكل المقاييس أحد أبرز من تولى بطريركية الكرازة المرقسية التي تمثل أكبر طائفة مسيحية في العالم العربي. ومع أن الموت حق، فإن من المفارقات المؤلمة - على أكثر من صعيد - أن يتوفى البابا شنودة خلال ساعات قليلة من بدء رأس كنيسة مشرقية أخرى هو البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بطريرك الموارنة، أول زيارة له بهذه الصفة إلى مصر.
موقع الموارنة في لبنان بالذات، وبلاد الشام إلى حد ما، فرض دائما على البطريرك الماروني لعب دور سياسي نشط. ومكانة الأقباط في مصر أيضا تجعل من بابا الإسكندرية مرجعية لها وزنها السياسي وأهميتها الوطنية في الحياة السياسية للمصريين. بل، في حين اعتبر الموارنة أنفسهم «ضمير لبنان» و«علة وجوده» و«مبرر بقائه»، فإن خير تعبير عن العلاقة العضوية بين الأقباط ومصر قول البابا شنودة «مصر تعيش فينا أكثر مما نعيش فيها».
ولكن هاتين الجماعتين المسيحيتين اللتين جبلتا عبر القرون في تراب بلاد الشام وأرض الكنانة، نجحتا في البقاء قوتين نابضتين بالحياة والقدرة على التجدد عبر نحو 1400 سنة من الحضور الإسلامي، ليس بلجوئهما إلى التقوقع والانعزال والهروب إلى الخوف، بل بفضل اختيارهما الريادة والتفاعل الإيجابي... وهو ما ظهر عند منعطفات عديدة في تاريخ الشرق الأوسط.
لقد كان للموارنة، والمسيحيين المشرقيين عموما، الريادة في حماية اللغة العربية وإثرائها إبان فترات الحكم العثماني الممتد لأربعة قرون (بين 1516 م و1918 م) وهذه حقيقة لا يجوز إغفالها والتقليل من شأنها، تماما كما لا يصح التقليل من شأن إسهام عدد كبير من مفكريهم وساستهم في الحركات والتيارات الوطنية العاملة على التفاعل الإيجابي مع البيئة الإسلامية الكبيرة الحاضنة، مع إغناء التنوع والتسامح في رحابها. والشيء نفسه ينطبق على الأقباط، الذين رفضوا الهيمنة الدينية الخارجية على كنيستهم منذ ما قبل الفتح الإسلامي، وكان لهم في النضال الوطني الاستقلالي الوطني ضد الاستعمار الغربي، إسهام عظيم تجسد في الحركة الوفدية عبر شخصيات من وزن مكرم عبيد وويصا واصف وواصف غالي وسينوت حنا وغيرهم. وكان أحد أهم المواقف التي تنم عن عمق وعي القيادات القبطية العاقلة معارضة البابا شنودة زيارة الرئيس المصري السابق الراحل أنور السادات للقدس المحتلة وتحفظه عن التطبيع مع إسرائيل.
هذه المقدمة لا بد منها، لتسليط الضوء على التحدي الكبير الذي يواجهه مسيحيو الشرق العربي هذه الأيام في ظل «الصحوة الإسلامية» التي نشهد راهنا بعد إطلالة «الربيع العربي».
أصلا، ما كان على مسيحيي المنطقة الوقوف مرتبكين أو متوجسين خيفة عندما كانوا يعيشون في مجتمع لا تقوم خياراته السياسية الأساسية على الهوية الدينية وشرعية هذه الهوية. فالنضال من أجل الاستقلال والتحرر من «الهيمنة الخارجية» - بمختلف أشكالها - كان عابرا للطوائف الدينية، والتنظيمات السياسية الوطنية التي قامت في المنطقة من العراق شرقا إلى مصر غربا تجاوزت الاصطفاف الديني أو المذهبي من أجل النضال المشترك ضد خصم مشترك.
وفي فترة من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي مع تبلور المفاهيم القومية انخرط كثرة من المسلمين في الحركات المنادية بالاستقلال عن الدولة العثمانية الإسلامية بعدما غلب عليها «التتريك»، ومثلهم انخرط كثرة من المسيحيين في التيارات المناوئة للنفوذين البريطاني والفرنسي المسيحيين، وتعزز هذا التوجه وتبلور تماما في الثلث الأول من القرن العشرين. ومن ثم، بعد تطور شكل الصراع السياسي الدولي بين اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، تراجع أكثر اضطرار المسلمين والمسيحيين للتمسك بما يفرقهم دينيا، فكانت الأحزاب اليمينية واليسارية - وطبعا القومية - في المشرق العربي تضم في صفوفها المسلمين والمسيحيين بشتى مذاهبهم وطوائفهم.
في مصر وبلاد الشام، يجوز لنا رصد بداية الفرز مع سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي اليميني – اليساري» على الحلبة السياسية بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967، ومن ثم، توقيع مصر اتفاقات كامب ديفيد، ووصولا إلى انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي.
سقوط البديلين «القومي» و«الآيديولوجي» شكل بداية السير باتجاه إيجاد «شرعية سياسية» جديدة بديلة للسلطة، وحقا أدت هذه البدائل لاحقا إلى تعميق الشرخ الديني والمذهبي.
كانت البدايات في مصر مع دفاع الرئيس السادات عن خياراته التطبيعية مع إسرائيل، ورفعه شعارات «الكيانية المصرية» ضد «العبء العربي»، واستغلاله رموز «الإسلام السياسي» على شاكلة ترويج لقب «الرئيس المؤمن» واستخدامه اسم التبريك قبل اسمه. ثم دخوله مواجهة مفتوحة مع القيادة القبطية بعد معارضتها كامب ديفيد وزيارته لإسرائيل، والتعامل بطريقة سلبية مع الاحتكاكات ذات الطابع الديني ومنها «حادثة الزاوية الحمراء» عام 1981.
وفي سوريا والعراق تحول حزب البعث العربي الاشتراكي المسيطر على البلدين، بعدما كان عند تأسيسه حزبا قوميا وعلمانيا ذا شعارات اشتراكية، إلى طغمتين عائليتين طائفيتين فاسدتين نهبتا البلدين وأبقتاهما لعقود في حال من العداء الوجودي. وفي لبنان تضافر مناخ ما بعد نكسة حزيران 1967 وتنامي الوجود المسلح للمقاومة الفلسطينية على أرضه بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 1970 إلى تفاقم الفرز السياسي بين المسلمين والمسيحيين، قبل أن يتحول بعد 1990 في ظل الهيمنة السورية إلى توتر خطير بين السنة والشيعة.
أما في فلسطين، فكان بديهيا ارتفاع أسهم الصوت الإسلامي الجهادي في وجه مشروع توراتي فاشي يشكله اليمين الإسرائيلي في ظل يأس الفلسطينيين من متاجرة الأنظمة العربية بقضيتهم، وانهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان رافدا آيديولوجيا ولوجستيا لها.
اليوم، بعد انطلاق «الربيع العربي» من تونس، وإعطاء تونس الخيار الإسلامي تفويضا سياسيا محدودا ومشروطا.. جاء الخيار في مصر قويا وضاغطا إلى حد قد يشكل خطرا على الإسلاميين بالقدر نفسه الذي من الواضح أنه يشكله على باقي مكونات المجتمع، ومنهم الأقباط. ويشاء القدر أن يغيب البابا شنودة إبان زيارة البطريرك الراعي لمصر.
هنا في هذه اللحظات أتمنى، كما يتمنى كل من يريد الخير لمصر بأقباطها ومسلميها، أن تكرم مصر ضيفها الجليل بكل شيء... إلا الإصغاء إلى فكره السياسي.
فالبطريرك الراعي، كما تدل أقواله ومواقفه، مقتنع تماما بنظرية «تحالف الأقليات» ضد «الإسلام السياسي»، وبالتالي، بمهادنة الأنظمة التسلطية... متجاهلا حقيقة أن هذه الأنظمة، مثل «المافيات»، في صميم تكتيكها تخويف الناس ومن ثم استغلال خوفهم.
إنها نظرية انتحارية في بلد متنوع مثل لبنان، فهل لنا أن نتصور ترجمة أبعادها العدائية في بلد مثل مصر يشكل المسلمون السنة نحو 90 في المائة من سكانه؟
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.