حوار- خيري حسن: تنشر بوابة الوفد آخر حوار لها مع الكاتب مكاوي سعيد والذي توفي صباح اليوم السبت، عن عمر ناهز 61 عامًا. ويعد الكاتب الراحل من أهم كتاب القصة والرواية، وسبق أن ترشح للفوز بجائزة البوكر العربية عن روايته "تغريدة البجعة"، ومن أهم كتبه رواية "فئران السفينة" و"مقتنيات وسط البلد" و"عن الميدان وتجلياته". وإلى الحوار:- "عندما اهتزت ثقتي بالأرض، الشيء الثابت اليقيني، اهتزت ثقتي بكل الموجودات" تلك كلمات تعلقت في عقلي، كما تتعلق أوراق الشجر بالفروع، منذ أن قرأت رواية «أن تحبك جيهان».. وقد جاءت على لسان أحد أبطال الرواية «أحمد الضوي» للكاتب المبدع حكاء وسط البلد «مكاوي سعيد». (لكن متى تهتز بنا الأرض؟ سؤال حاولت الإجابة عنه كثيرًا بيني وبين نفسي وأنا أسير في شوارع وسط البلد، بصحبة الشاعر المبدع عماد أبوصالح في طريقنا إلي مقهى «زهرة البستان» حيث كان «مكاوي» الإنسان والفنان يجلس في انتظارنا. عماد أبوصالح صديق له حيث تلتقي الرواية والشعر، ويختلط معها تاريخ وطن، وكفاح شعب ممزوج ذلك كله بطعم الإنسانية والحرية التي يبحث عنها مكاوي سعيد في رواياته وعماد أبوصالح في شعره. بعد دقائق انضم إلينا أكثر من صديق، ما بين ناقد ومترجم وطبيب، جميعهم ضيوف دائمون على مائدة إبداع «مكاوي». جلست إليه، وبدأنا الحديث، لكنني بعد دقائق اكتشفت أنني أجلس أمام «شخصية مصر» في الإنسان، التي لا تقل عبقرية عن شخصية مصر عند جمال حمدان التي تحدث فيها عن جغرافيا المكان. وجغرافيا ملامح «مكاوي سعيد» تكشف أو هكذا اتصور عن ملامح مصرية أصيلة، فالوجه به تضاريس أهل الجنوب بكل ما يحمل من صفات، والجسد به جينات الفلاح المصري الذي يزرع الأرض في وسط الدلتا وشمالها، رغم أنه ولد وعاش في حي «جاردن سيتي» في قلب القاهرة و لعب في شوارع هذا الحي الهادئ، غير أنك تشعر وأنت أمامه أنه عاش في حواري المحروسة أو في القرى والنجوع أكثر مما عاش في ذلك الحي. بدأت معه الكلام الذي عدت معه فيه إلى سنوات الطفولة والصبا في هذه السلسلة الحوارية التي تحمل عنوان «اللهم أني فاكر». أغلق هاتفه، فهو يتعامل بنشاط وإدراك مع تكنولوجيا الهواتف بسهولة، واحتسى ما تبقى أمامه من فنجان القهوة كان هذا قبل الشهر الكريم ثم ابتعد عنا الصديق عماد أبوصالح قليلًا. وأمامه نسخة من ديوانه الأخير الذي يحمل عنوان (كان نائمًا عندما قامت الثورة) وملامح وجهه تسأل.. هل بالفعل قامت ثورة؟ وإن كانت الإجابة بنعم أقول إن كانت فمن منا كان نائمًا؟ ومن منا كان متيقظًا.. عدت ببصري إلى «مكاوي» الذي اعتدل أمامي في مقعده، حيث عدت معه إلى زمن جميل مضى وذكريات أجمل مازالت عالقة بالذهن. وإلى نص الحوار. في البداية دعنا نعود إلى زمن فات.. وذكريات الطفولة في رمضان؟ - كما تعلم أنا نشأت وتربيت في حي جاردن سيتي. حيث يمتاز الحي خاصة زمان بالهدوء والشوارع التي لا تمر فيها السيارات إلا نادرًا. وهذه الميزة أعطت لنا ونحن أطفال حرية اللعب في الشوارع. وبالتالي كنا في رمضان نقوم بتنظيم دورات رمضانية بالنهار ونلعب في الشوارع الجانبية من جاردن سيتي،حيث لا تمر السيارات إلا نادرًا. في الصيام؟ - نعم.. كنا نفعل ذلك ونحن صائمين وفي ظل درجات حرارة مرتفعة مثل الجو الذي نحن عليه الآن. والحقيقة أنا كلما تذكرت هذه الأيام اندهش.. وأسأل نفسي كيف كنا نفعل ذلك؟ لكن فيما يبدو كنا شباب له قدرات خاصة.. ثم يضحك الأستاذ مكاوي ويقول: اليوم ما أراه هو دورات رمضانية ليلية. هذا لأن درجات الحرارة اليوم مرتفعة؟ - وأيامنا كانت لا تقل كثيرًا في سخونتها عن اليوم. إنما في كل رمضان أتذكر هذه الأيام وأعود بالذكريات إلى ذلك العصر وهذا الزمن الجميل. لكن هذه الأيام بعد الكبر ومغادرة مرحلة الشباب أصبحنا نقيم دورات رمضانية على القهوة ولكن في الطاولة. هل تكتب في رمضان؟ - باستثناء المقال فقط. لا أكتب في رمضان. وعلى ما أذكر كنت في إحدى السنوات قد بدأت في كتابة رواية، لكن لم أكمل كتابتها إلا بعد الصيام ومن بعدها لم أحاول تكرار التجربة. وماذا فعلت بعد فشل تكرار التجربة؟ - جعلت أيام رمضان للقراءة فقط. حيث أهتم فيها بالتركيز في القراءة حتى أعوض ما فاتني من كتب لم أستطع قراءتها في غير رمضان. وأيضًا لا أهتم كثيرًا بمشاهدة التليفزيون إلا في الفترات التي أكون أمامها فيها لحظة الإفطار ولحظة السحور. هل كان للأسرة دور في تشكيل وجدانك الإبداعي؟ - تستطيع أن تقول إن شقيقي الأكبر كان له دور في تقريب المسافة بيني وبين القراءة. يعتقد البعض أحيانا أن الأب هوالمحور الرئيسي في تشكيل الوعي والوجدان منذ الصغر؟ - مسألة الأب معقدة لأنه من الممكن أن يكون الأب موجودًا في الحيز الزمني والمكاني لابن، لكن في لحظات يكون الأقرب هو الأخ الأكبر، خاصة إذا كان الفرق الزمني بينهما كبيرًا. وهذا ما حدث معي بيني وبين وشقيقى الأكبر. وهل لعب الأخ الأكبر دورًا في حياتك؟ - بكل تأكيد.. الفرق بيني وبين أخي الأكبر كان 10 سنوات حتى أنه كان أكثر سيطرة علي من الأب، فالأب كان بالنسب لي مصدر الحنان خاصة لأن أخي كان متعلمًا وأبي كان تعليمه محدودًا. فأخي الكبير كان هو الذي يأتي إلى المدرسة وبيراقبني. ولو رآني ألعب في أماكن غير المسموح بها يمنعني. ولو خرجت مثلًا أنا وأصدقائي وبالصدفة يكون خارجًا معي وأصدقاءه وأجده في نفس المكان، كان هذا بالنسبة لي مفاجئة غير سارة بل تستطيع تقول كارثة. فكنت أرجع على الفور مستنجدًا بأبى حتى لا أنال منه أي عقاب. وهل كان يتدخل بينكما أبوك في هذا الموقف؟ - طبعًا (عند الجد يتدخل) ويقول له دعه وشأنه. فيظل أخي يعدد له عيوب الأصدقاء الذين كانوا في عندما تقابلت معه فجأة. هذا معناه أنه كان من الممكن أن يفرض عليك صداقات محددة؟ - آه.. طبعًا كان بيفرض علي صداقات فكان معروفًا مثلًا في كل حي أن هناك أطفال أشقياء وبالتالي لا يجب أن تصاحب هؤلاء الأولاد، وعليك إذا أردت أن تصاحب فأمامك أطفال غيرهم يراهم هو أنهم أطفال «كويسين». ومن أين جاء حبك للأدب؟ - سببه كان حب أخي للأدب، لأنه كان يحب القراءة والأدب وبيحب أدب نجيب محفوظ وأول مكتبة في بيتنا كونها هو، فكان يأتي بالكتب الجديدة وكنت أنا أقرأها معه، فجزء من تكويني الأدبي كان سببه الأساسي هو حب أخي للأدب والقراءة. إذن قسوته عليك كانت بغرض أن يراك ناجحًا؟ - هذا صحيح.. فدائمًا كان مهتمًا أن يجعلني شخصًا جيدًا. وكنت في البداية أراها قسوة وشدة في غير محلها. ولكني اكتشفت فيما بعد أنها هي ليست قسوة، بل هي خوفًا وحرصًا على مستقبلي حيث كان هدفه هو إبعاد المخاطر عني. ومتى تخلصت من سلطته عليك وتحررت من قوته وشدته عليك؟ - حدث هذا في المرحلة الثانوية.. فعندما كبرت ووصلت إلى هذه المرحلة، كانت الأسرة وهو قبل الجميع متوقعين لي الرسوب لأنني كنت كثير اللعب وعدم الاكتراث بالمذاكرة. لكن جاءت النتيجة على عكس ما توقعوا هم وحققت نجاحًا وتفوقًا مذهلًا بالنسبة لهم. بعدها بدأ يعاملني معاملة الأخ الكبير، ثم بدأت أنشر أشعارًا وقصصًا قصيرة في بعض الصحف والدوريات وهذا جعله يفرح ويترك لي الحرية أن أفعل ما أريد. كبرت بقى؟ - نعم.. وبدأت النشر من مرحلة الثانوي كان في مجلات فنية أو جرايد وكان أهلي سعداء بي جدًا خاصة أن أخواتي الكبار لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعلت هذا من وجهة نظر الأهل وهذا وضعني في منطقة خصوصية لدى باقي أفراد الأسرة. لدرجة جعلتهم حتى هدية النجاح أصبحت عبارة عن كتب أو روايات. ولدت وتربيت في حي جاردن سيتي.. كيف كانت أيامه زمان؟ - جاردن سيتي مكان هادئ وكان ويضم كل الطوائف من الباشوات إلى الموظفين، لكن تحول الحي أيام عبدالناصر وجاء إليه ناس غير الناس. لكن على الرغم من التحول الذي حدث في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 وأيضًا بعد التحول الثاني الذي حدث مع عصر السادات فيما عرف وقتها بعصر الانفتاح، إلا أن جاردن سيتي ظل محتفظًا بتكوينه الراقي، أسرتنا مثلًا جاءت للحي من المنيرة والسيدة زينب فكنا ننزل نلعب كورة في الشارع ونعمل ضجة في الشوارع والسكان يطلبون البوليس، وأذكر جيدًا أن الشوارع كانت نظيفة وفكرة الشوارع النظيفة بتأثر في الإبداع بمعنى أنني مهما خرجت في أي مناطق أحب دائمًا أن أعود إلى جاردن سيتي. يتوقف البعض أمام أسماء في الأدب تظهر بقوة وإن كان أدبها عند البعض أقل من تواجدها على الساحة.. فما تفسيرك لهذا؟ - أنت تقول تظهر وهي هنا تعني أنها ظاهرة تظهر ثم تختفي مع مرور الوقت. ولا أعتقد أن هذه الظواهر الأدبية صحيحة أو أصحابها أصحاب إبداع حقيقي. لأن أصحاب الظواهر غير متمكنين في الأدب فدائمًا ما يكون الأدب لديهم غير حقيقي، فعلى سبيل المثال في الثمانينيات كان هناك في سنة معينة أدباء قدموا للساحة كتابات كثيرة ولكن فيما بعد اختفوا والآن لا مكان لهم. وهل للأدب عمر أو حياة ممكن تكون طويلة أو قصيرة؟ - طبعًا.. أنت إذا كتبت ما يتواصل ويترك أثرًا لدى القارئ.. فأنت بتلك الكتابة تطيل عمرك الأدبي وعمر ما تكتبه. لذلك ممكن أنك تتقابل مع شخص فيذكرك برواية لك من 20 سنة وأن تباع كتبك بصفة دورية كل سنة وبصفة دورية فهذا نجاح يدل على عمق التجربة الإبداعية لديك. لكن هناك من تبيع أعمالهم بأرقام خيالية؟ - أن تباع كتابك بتلك الأرقام فأنت تنسج فخًا للقارئ. كيف يكون «فخًا» والقارئ هو الذي ذهب واشترى بنفسه؟ - لأن القارئ يشتري الكتاب بناء على هذه الضجة التي لا يستحقها العمل الذي طرح في المكتبات، لكن بعد فترة سيعرف القارئ من القراء أن العمل غير جيد وبالتالي لن يأتي عليك مرة أخرى. وتأكد أن العمل الجيد هو الذي يعيش وما دونه فمصيره النسيان. لماذا ابتعدت سنوات عن الكتابة؟ - كانت الظروف صعبة فأنا كنت أعمل محاسبًا في شركة وأتعامل مع لغة الأرقام «أكل عيش بقى» فكان من الصعب علي وقتها أن أكتب خاصة أن مسئولياتي كانت تكبر كل يوم وليس لدي وقت فراغ حتى أستطيع أن أكتب فيه. وفي تلك الفترات كنت أركز أكثر في القراءة وقليلًا ما كنت أكتب أو أنشغل في أعمال إبداعية. لدرجة جعلتني حتى اليوم أحب القراءة أكثر من الكتابة. هل ما لديك عن ثورة يناير خرج لجمهورك؟ - كعمل إبداعي، لم يحدث بعد. لكنني كتبت عن ال 18 يومًا قبل رحيل مبارك كما رأيتها لحظة بلحظة ويومًا بيوم ولكن دون تعليق مني على الأحداث، أنا قدمت ما رأيت لدرجة أني كنت كاتبًا عن سلوك الحيوانات أثناء الثورة، أما رأيي السياسي فأكتبه في المقالات.. ولست في حاجة لضمه أو طرحه في عمل أدبي حاليًا.