كثيرة هى حكايات جدتى، لكن يظل عالقًا بذهنى أكثر ما يظل، صوتها وهى تغنى للحجاج المنتظرة عودتهم من «الحجاز» مثلما كانت تقول فى كل رحلات الحج التى شهدها منزلنا، كانت تجلس ما بين صلاة المغرب وأذان العشاء، لتغنى، بطريقة «الحفان»، وهى طريقة فى الغناء تشبه طريقة الحداء الصحراوية، تغنى: «رايحة فين يا حاجة وشاقة البحورى.. رايحة أزور النبى محمد وأزمزم شعورى.. رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة.. رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة.. رايحة فين يا حاجة يا أم شال سماوى.. رايحة أزور النبى محمد وأرجع ع القناوى». فيتحلق حولها الأطفال، بينما حضر أحد الخطاطين ليرسم على جدار المنزل والكعبة والجمل والسفينة، ويكتب آيات الحج فى القرآن، فنسعد بلحظات من البهجة والفرح، لن تعود إلا إذا ركبنا آلة الزمن!! المشهد العام فى مصر الآن يؤكد أن هذه الجماليات، أوشكت على الاندثار فى الكثير من القرى المصرية، وانصرف الكثيرون ممن يسافرون للحج، لأداء الفريضة عن اتباع تلك العادات، باعتبارها عادات قديمة ورسومات شعبية، ومع ذلك فما زالت هذه الفنون تصارع من أجل البقاء، وسط زحام التطور والتكنولوجيا الحديثة. فقد حاول أهالى الصعيد، أن يوثقوا إيمانهم على البيوت، تيمنًا بأجدادهم الفراعنة، الذين اعتادوا تسجيل حيواتهم من خلال الرسومات، التى غطت جدران المعابد والمقابر، فرسم الحجاج على الحوائط فيما سمى ب «جداريات الحج»، تلك الجداريات التى سجلوا من خلالها تفاصيل الرحلة المقدسة، والتى خطها رسامون، غالبيتهم من البسطاء، مستخدمين ألوانًا بسيطة، معتمدين على موهبتهم الفطرية دون دراسة، ومع ذلك تظل لوحاتهم آيات فى الجمال. ومن هنا أصبح للحج فنون تراثية خاصة به تتمثل فى رسم وغناء، ما لفت أنظار الباحثين الغربيين لتلك الظاهرة، وتدارسوها باعتبارها سمة مميزة للوجدان المصرى المفعم بالإيمان وحب الجمال، ورغبة المصرى فى التعبير عن أنبل المشاعر فى حياته اليومية وفنه معًا، وكتبوا عنها عدة كتب كان أشهرها: «لوحات الحج» للفنانة الأمريكية «آن باركر»، والكاتب «آفون نيل»، والذى أصدره قسم النشر بالجامعة الأمريكية هنا فى القاهرة، بعدما أمضى المؤلفان قرابة عشرة أعوام فى تأليفه، جابا خلالها القرى على طول نهر النيل، وساحل البحر الأحمر، حتى سيناء فى شمال شرق مصر، ليخرجا به إلى النور، متضمنًا 15 صورة فوتوغرافية من لوحات فنانين رسموا رحلات الحج، وفيه يقول «آفون نيل» عن الرسامين المصريين: «الكعبة هى الرمز الأشهر فى رسومات الحج، وهى أوثق دليل على تمام الرحلة المقدسة، فقد رسم الفنانون المصريون نموذج الكعبة المشرفة، بتنوع وبكثرة لا تحصى، تمثل أسلوبًا مختلفًا للتعبير بشكل فردى، عن الإحساس الفطرى تجاه الكعبة المشرفة، ومشهد المحمل بأغطيته المزركشة - وإن كان قد اختفى تمامًا من الحياة عمليًا فإنه لا يزال يصور ضمن الرسومات التى تزين حوائط الحجاج المصريين، ويرسم الفنانون الجمل العربى مرحًا نابضًا بالحياة ضمن قافلة فى طريقها إلى الحج، كذلك يرسمون السفينة كوسيلة نقل بحرية، فهى البديل الأكثر شعبية للحجاج، من ذوى الدخول المحدودة، لذا تظهر بكثرة فى رسوم الحج، وكذلك يرسمون الطائرة، وهناك بالطبع بعض النصوص الدينية التى تنقش بمهارة فى رسومات الحج». ولم يغفل الكتاب أن روائع «جداريات الحج» فى مصر، تتركز فى مناطق النوبة والصعيد والواحات، وأن معظمها يرجع إلى القرن الثامن عشر، متضمنة عناصر فنية كالنخيل والسفن والجمال، أما تلك التى يعود تاريخها إلى أواسط القرن الماضى، ورسمت على الجدران، فكانت عبارة عن أشكال نباتية، وصور لمساجد ومآذن وكتابات ترحيبية بالحجاج، ووسائل نقلهم، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائرات والطيور، والخيل، والكف، والرموز العربية والفرعونية، والزهور، والمسجدين؛ الحرام والنبوى. ويعتبر أحمد ياسين الملقب ب«عيد السلواوى» فنان الجداريات الشعبية، واحدًا من الرسامين الشعبيين الذين ذكرهم الكتاب، واعتبره المؤلفان من أبرز فنانى رسومات الحج، وذكرا من خلال حوار حى مع «السلواوى» أن أصوله تعود إلى محافظة أسوان، حيث قرية «سلوا» بحرى مسقط رأسه، وأنه يعمل فى هذا الفن منذ ستينات القرن الماضى. كذلك يعد «مصطفى سمنقير» أحد أشهر رسامى جداريات الحج بمحافظة الأقصر، وهو الذى أكد مراراً، أن كل ما يحتاجه هو ريشة وسلم ومجموعة من الألوان الزيتية، مؤكدًا أنها أدوات غاية فى البساطة، وقد يستبدل هذا السلم بأحد البراميل الضخمة الفارغة؛ ليقف عليها ويرسم فى الأماكن المرتفعة بمنزل العائد من الحج. ولما كان الرسم على الحوائط، من أهم ما يميز احتفال الحجاج بالسفر للأراضى المقدسة فى وقت من الأوقات، فقد تضمنت بعض الأغانى الخاصة بهذه المناسبة، كلمات تطالب أقارب الحاج بالرسم على البيوت كان أشهرها أغنية «يا هناه اللى انوعد» والتى يأتى فى أحد مقاطعها: «يا رايح بلدنا.. يا بشير يا بشير يا رايح بلدنا.. قول لولدى العزيز يبيض عتبنا ببوهية وزيتى.. نقرش البوابة ببوهية وزيتى.. واكتب حجتى على باب بيتى». والمتابع لمشهد وداع واستقبال الحجاج، يلحظ ارتباط أغانى الحجيج بتغير وسيلة الوصول للكعبة المشرفة، فقديمًا عندما كان الجمل والوابور والمحمل هى وسائل الانتقال، كانت الأغانى تأتى على ذكر تلك الوسائل، فنجد إحدى الأغنيات تقول «يا بو الخف زينة يا جمل يا جمل يابو الخف زينة.. رايح فين يا جمل.. دا أنا رايح أودى الحبيب يزور نبينا.. يا بو دراع حديدى.. يا بابور.. يا بابور يا بو دراع حديدى.. ورايح فين يا بابور.. دا أنا رايح أودى الحبايب يزوروا الحبيبى». ولم تقتصر أغنيات المصريين الشعبية الخاصة بالحجيج، على التهنئة والفرح فقط، ولكنهم أيضًا اعتبروها فرصة ليؤنبوا بها حاكم ظالم، استبد برعيته، مستكثرين عليه زيارة بيت الله الحرام، مثلما فعلوا مع أمير المحمل «ألاتابكى الرجبى» عام 909 هجرى، حين أنشدوه: «حججت البيت ليتك لا تحج.. فظلمك قد فشى فى الناس صج.. حججت كأن فوقك حمل ذنب.. رجعت وفوق ذاك الحمل خرج». كما رصدت أغانى الحجيج عددًا من العادات الاجتماعية، حيث تناول بعضها إشارة إلى الطعام، الذى يتزود به الحجاج فى رحلتهم، فغنى المصريون «للكشك»؛ ذلك الغذاء الصعيدى الشهير، فذكرت إحدى الأغانى فى بدايتها «خد الكشك كله.. وإن نويت ع السفر خد الكشك كله.. خد الكشك كله.. عند حرم النبى.. اقعد وبله». وقد تطورت أغانى الحج بمرور الزمن، من أسلوب الحفان والدفوف إلى الألحان والغناء بصوت كبار المطربين والمطربات، وتُعد أغنية «عليك صلاة الله وسلامه» والتى ارتبط بها وجدان المصريين، من أقدم هذه الأغنيات، وهى من كلمات بديع خيرى، وألحان فريد الأطرش وغناء أسمهان وفى مطلعها: «عليك صلاة الله وسلامه.. شفاعة يا جد الحسنين.. دا محملك رجعت أيامه.. هنية وتملت به العين». كذلك يعد ما تغنت به ليلى مراد فى فيلم «ليلى بنت الأكابر» من أشهر أغانى الحج، والتى تقول فيها «يا رايحين للنبى الغالى هنيا لكم.. وعقبالى» وهى من كلمات أبوالسعود الإبيارى ولحن رياض السنباطى.