المياه تسبب الفشل الكلوى.. والمستشفى بلا أطباء الكتل الأسمنتية تحجب الشمس.. و«الحمار» وسيلة للنقل الأهالى خليط من القبائل العربية.. ويتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم لكل صحراء مزاجها المتقلب، إذا تظهر لك حبها وعطفها فى بعض الأحيان، ويمكنها كذلك أن تذيق محبيها طعم الجحيم، ولكن تبقى الواحات البحرية ذات مذاق خاص، إذ تشعرك أنك قريب جداً من الله، عندما تتأمل تفاصيل إبداعه التى تجسدت فى هذه البقعة وأظهرتها «أيقونة فى الجمال والسحر».. فالهواء الذى تتنفسه يبدو نقياً، وفى سكونها تكون أفكارك دائماً نبيلة وقلبك حافلاً بالتسامح. كثرة دروب وجبال المنطقة الساحرة التى «لا اسم ولا أى سمة تميزها عن بعضها».. جعلتها فى خندق الاتهام، خاصةً أنه يسهل على أى إرهابى أن يدخل ويخرج من المكان بحرية، مستغلاً الطبيعة الجغرافية وقرب المنطقة من القاهرة والتى تبعد عنها حوالى 375 كليومتراً، ومن محافظات الصعيد بعد افتتاح «طريق المنيا – الواحات»، واختصار المسافة بين المنطقتين ل160 كيلومتراً، فضلاً عن قربها من الحدود الليبية والسودانية. وحاولنا فى التحقيق السابق الذى نشر فى الجريدة بعنوان «الواحات البحرية.. بوابة التسلل إلى ليبيا».. دق جرس إنذار للمسئولين، بعدم إهمال هذه البقعة الساحرة؛ خوفاً أن تقع ضحية طبيعتها الجغرافية، وتتحول إلى «سيناء ثانية».. أى تصبح مرتعاً للعمليات العسكرية والإرهابيين، خاصةً أننا كشفنا ضعف المستوى الأمنى بالمنطقة وعدم وجود أكمنة للشرطة لتفتيش المسافرين والتأكد من هويتهم. بعيداً عن أن المحمية الطبيعة وقعت فى مأزق صحرائها الساحرة والمدمرة فى الوقت نفسه، فإن هناك العديد من التساؤلات لا تزال عالقة عن طبيعة المجتمع الذى يعيش فى هذه البقعة الخضراء، وهل معاناة هذا المجتمع وضعف مستوى الخدمات بالمكان ثغرة يمكن أن تستغلهما الجماعات الإرهابية لاختراقه؟ «الوفد» قضت 5 أيام فى قلب الواحات البحرية، وعاشت مع أهلها، للتعرف على طبيعة المجتمع الواحاتى، وما يميزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، سواء فيما يتعلق بالعادات والتقاليد، والمستوى الخدمى والتعليمى الموجود بتلك المنطقة الصحراوية، فضلاً عن أوضاع المرأة الواحاتية، وكيف تعيش حياتها فى ظل القيود التى تفرض عليها من مجتمعها؟ وهل هى راضية عن هذه القيود أم تسعى لكسرها والخروج من عباءة الواحة؟ الواحة.. من الداخل بعد وصولنا للواحة، استقبلنا مجموعة من الصبية يهرولون علينا مبتسمين ويقولون: «أجنبى أجنبى»، رغم أننا لا يبدو علينا أى ملامح أجنبية، ولكن هذه الكلمة بمفهومهم تعنى: «غريب عن الواحة»، خاصةً أنهم يعرفون بعضهم البعض جيداً، لذلك الغريب وسطهم معروف. لفت انتباهنا.. أن البيوت القديمة التى بنيت بالطوب اللبن و«الخشب» تلاشت ولم يبق منها إلا أطلال أصبحت كالآثار.. يأتى السياح لرؤيتها والتقاط صورة بجانبها، بينما اكتسحت المبانى الأسمنية المكونة من دور أو اثنين؛ نظراً إلى الطبيعة الجغرافية للمكان، ووجود مياه جوفية تحت الأرض. بعض المستجدات الحديثة غيرت شكل المكان إلى حد ما، مثل المبانى الأسمنتية، وتحول أثاث المنازل من الحصير إلى السجاد ومن الطهى فى الأوانى الفخارية إلى الأوانى الألومنيوم و«الإستلس»، ومع هذا لا تزال الواحة تحتفظ بطبيعة تميزها عن غيرها بما تحمله من طابع ريفى، فضلاً عن أن الأهالى يعيشون حالة من الاكتفاء الذاتى فى كل مناحى الحياة، خاصةً فى الطعام والشارب، فمعظمهم يمتلكون العديد من الأفدنة المزروعة، وفى المواسم يُصدرون الكثير من المحاصيل للمحافظات، بينما الباقى يوزعونه على بعضهم البعض.. فالجميع يعتمد على غذاء الطبيعة. ونادراً ما تجد بالمكان معارك أو مشاجرات وإذا حدث ونشبت يتم حلها فى بضع ثوان. الحمار.. صديق القرية «الحيوانات صديقة البيئة».. تلك المقولة، تتجلى فى المكان بصورة كبيرة، فالواحة تعتمد على الحيوانات فى كل شىء، بدءاً من الحمار الذى يُستخدم كوسيلة نقل من قرية إلى قرية؛ نظراً إلى عدم وجود وسائل نقل بالمنطقة، إلا «إذا ربنا كان فاتح على أحد الأشخاص، ويمتلك سيارة خاصةً أو موتوسيكل أو توك توك»، أما المواشى (من أبقار وجمال وماعز) فتستخدم فى الحقول، وأحياناً يقوم الأهالى بتربيتها، والاعتماد عليها كمصدر دخل لهم، يبيعونها وقت الحاجة؛ لكى ينفقوا من أموالها طيلة العام. حدثنا «عم محمد»، 68 عاماً، أثناء تجوله على حماره الذى اعتبره بمثابة صديق لا يستطيع الاستغناء عنه، قائلاً: «إن الحياة بالواحة صعبة جداً لعدم وجود وسائل نقل، ما يعيقهم عن الانتقال من قرية لأخرى، لافتاً إلى أن معظم الناس بالواحة «أحوالهم المعيشية على قدها»، ولا يستطيع الكثير منهم شراء سيارة خاصة أو موتوسيكل ليتجول به. وأضاف: «بتعجب من اللى بيتكلم عن الإرهاب بالواحة.. إحنا ما نعرفش لا إرهاب ولا غيره.. نعم ظروفنا صعبة ومعظمنا ناس فقيرة، ولكن لا نحب العنف، ولا قدر غريب يغير من طباعنا المسالمة والمحبة للفطرة»، مشيراً إلى أن إهمال الحكومة للمنطقة وعدم التواجد الأمنى جعلا الغرباء «يستبيحون الواحة»، ويستغلون طبيعتها الجغرافية فى أعمالهم الإجرامية والإرهابية، ولكن هذا ليس لنا ذنب فيه، خاصةً أنه لا يوجد أى حد متورط من الأهالى فى عمل مخالف للقانون، بل كل مرتكبى الجرائم من محافظات الصعيد وقرى الجيزة. وعن أصل سكان الواحة: يقول: «الواحة يعيش بها 50% فقط من سكانها الأصليين الذين ظلوا متمسكين بأراضيهم وينحدرون من قبائل بدوية عربية من ليبيا وتونس، منهم أكبر القبائل المعروفة بأصولها الليبية فى مصر، وهى قبيلة أولاد على وقبيلة الزوينب، أما باقى السكان فجاءوا حديثاً للواحة من جميع محافظات مصر وبخاصة من الفيوموالجيزةوالقاهرةوالمنيا وبنى سويف، بحثاً عن العمل، واستقروا فيها ومنهم من تزوج من بناتها أو زوج بناته لأبناء الواحة». وأشار إلى أن مصاهرة أهل الواحة للوافدين يميزها عن غيرها من المناطق التى يسكن فيها البدو، والتى تأبى مصاهرة الغرباء، مشيراً إلى أن المجتمع الواحاتى منغلق إلى حد كبير على نفسه، ولكن «ليس متشدداً» ويرحب بالجميع، خاصةً أننا لا نخشى على ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا من السكان الجدد؛ لأن الوافدين هم من ينصهرون بداخلنا ويعتادون على تقاليدنا وليس العكس. الفقر وقلة الخدمات فى القرى توجد بالواحة 5 مدن كبرى، وهى «الباويطى» و«القصر» و«الحيز» و«الزبو» و«منديشة»، يتفرع منها العديد من القرى، تبعدها عن بعضها البعض المسافات، ولكن تجمعها قلة الخدمات وعدم الاهتمام الحكومى، كأنها، بحسب ما قال الأهالى: «ناس تانية مش من مصر». مياه الشرب فيها نسبة الحديد عالية، يعنى بتجيب فشل كلوى، وأولادنا مش عارفين ندخلهم جامعات، حتى مصدر رزقنا وهو النخل مهدد.. «لنا الله طالما الحكومة مش عايزة تسأل فينا».. بهذه الكلمات بدأ الحاج شعبان مصطفى 66 عاماً حديثه لنا، مؤكداً أن العديد من القرى بالواحات لا توجد بها أى خدمات والناس عايشين زى ما يكون فى القرن السابع ولا الثامن مش فى القرن ال 21». وتابع: «رغم أن بعض المدن فى الواحات إلى حد ما كويسة فى العيشة وخاصةً الباويطى، إلا أن العديد من القرى تعانى من الفقر فى الخدمات، فالناس فى قرية الحيز يعيشون من غير كهرباء ولا صرف صحى، والبيوت هناك بالطوب اللبن وعشش، كأن القرن ال21 زار الناس كلها، إلا قرية الحيز وغيرها من القرى جاء عندنا ولف ورجع وفضلوا هما فى القرن السابع الميلادى زى ما هما». وأشار إلى أن العديد من أهالى الواحة أصيبوا بالفشل الكلوى؛ نتيجة ارتفاع نسبة الحديد فى مياه الشرب، ولولا انتشار الجمعيات الشرعية لتحلية المياه فى أكثر منطقة منها «منديشة» و«الباويطى» و«الزبو»، لكان الناس ماتت من زمان. ويستطرد حديثه: «إحنا تعبنا من كثر الشكاوى والمطالبة بالاهتمام، وفى الآخر الحال كما هو مفيش حاجة بتتغير، ولادنا مش عارفين ندخلهم جامعات، الناس هنا فى الواحة معظمهم تعليم متوسط.. (دبلوم صنايع أو زراعى أو معهد تمريض)، مشيراً إلى أن معظم الأهالى بيخافوا على أولادهم من الغربة والسفر للقاهرة للالتحاق بالجامعة، لذلك يفضلون التعليم المتوسط، فضلاً عن عدم وجود وظائف لخريجى الجامعة؛ لأن مصدر رزقنا الفلاحة والصناعات وخاصةً البلح والزيتون، وأحياناً السياحة من الموسم للموسم. ويختتم حديثه قائلاً: «مصدر رزقنا قرب ينتهى، فأكثر من مليون نخلة معرضة للهلاك بسبب مرض «سوسة النخل» وعلاجه لا يستطيع الفلاح البسيط شراءه، ووزارة الزراعة لا توفر المبيدات اللازمة ولا الأسمدة الكافية. المستشفى بلا أطباء شكاوى الأهالى من مستشفى الواحات المركزى، دفعتنا لزيارة المكان، والذى بدا نظيفاً وبه جميع الأجهزة الطبية التى يحتاجها، ولكن «المشكلة فى عدم وجود أطباء أساسيين فى تخصصات الجراحة والعظام والرمد والأنف والأذن والحنجرة والجراحات التخصصية»، وذلك بحسب ما قاله د. محمد عبدالسلام مدير المستشفى. وأضاف «عبدالسلام»، أن المستشفى فيه 4 أطباء فقط يخدمون حوالى 80 ألف نسمة من سكان الواحات، مشيراً إلى أن العديد من الأطباء يرفضون تكليف العمل بالمكان، ولو الوزارة صممت: «يستقيل الطبيب أو يلغى انتدابه» وذلك لأن الواحة منطقة نائية و«مفيش تقدير مادى مناسب لجهدهم». وأكد: «أن وزارة الصحة تعطى الطبيب 1100 جنيه نظير سفره للعمل بمستشفى الواحة، وناشدنا الوزارة لعدة مرات زيادة رواتب الأطباء ل6 آلاف جنيه نظير سفرهم للواحة، ولكن: «لا حياة لمن تنادى». وتابع أنهم يعتمدون على القوافل الطبية التى تأتى من القاهرة كل 10 أيام، ويكون بها معظم التخصصات التى يحتاجها الأهالى. وأشار د. محمد فايز، نائب مدير المستشفى، إلى أنهم يتعاملون من خلال جهاز الاتصال عن بُعد بمستشفيات القاهرة لتشخيص الحالات المريضة، حيث يتم جلوس المريض أمام شاشة العرض ويجلس فى الجهة الأخرى الطبيب ويشخص مرضه، لافتاً إلى أن هذه الطريقة الوحيدة التى نلجأ لها لمعالجة القصور فى نقص الأطباء بالمستشفى. أراضى الواحة.. وضع يد سماسرة الأراضى لا يغيبون عن المكان، فمعظم الأراضى فى الواحة وضع يد، لا أحد يملك عقد تمليك للمنزل الذى يسكن فيه أو الورشة التى يعمل بها، فعادة تسير أمور البيع والشراء بواسطة سمسار من أبناء الواحة يضع يده على مئات الأفدنة، ويقوم ببيعها أما للغرباء الراغبين فى الإقامة بالواحات وإما لأبناء الواحة نفسها، وسعر المتر فيها لا يتجاوز 200 جنيه. ورغم تكليف الرئيس السيسى، فى كلمته خلال افتتاح مجموعة من المشروعات بعدد من محافظات الصعيد بتشكيل لجنة لاسترداد أراضى الدولة، فإنَّ الواحات ذات طبيعة خاصة، فبحسب ما رواه الأهالى: «من الممكن أن تقنن الدولة الوضع للأراضى ولكن لا يمكن أن تسحبها منهم». «إحنا ناس بسيطة بنعيش على ما تنتجه لنا الأرض».. بهذه الكلمات يبدأ خالد العشرى، 40 عاماً، فلاح من قرية الباويطى حديثه، مؤكداً أن الأراضى الزراعية هى مصدر رزق معظم أهل الواحة، فمن الموسم للموسم والذى يبدأ فى سبتمبر نعتمد على زراعة محصولى البلح والزيتون، حيث نجمع ثمار البلح فى أقفاص من البلاستيك وننقلها إلى أماكن خاصة للتعرض للشمس والتهوية لمدة لا تزيد على أسبوعين، ثم تنقل للتعبئة. ويتابع: أما الزيتون وهو المحصول المتوفر بكثرة فى كل بيت واحاتى ولا تخلو أى وجبة منه، فعادةً إما يستخدمه الأهالى «كنوع من المخللات»، وإما يتم بيعه لعصارات الزيتون التقليدية لعمل زيت الزيتون منه بهدف التصدير للمحافظات الأخرى. ويستطرد «العشرى» حديثه قائلاً: «الحمد لله الخير عندنا كثير، الحياة عندنا مش غالية أوى زى مصر.. الناس هنا بتزرع معظم الخضراوات والفاكهة وبالتحديد (بالمسطاح) وكل حاجة طبيعية لا نضيف عليها كيماويات ولا أى حاجة.. وإحنا مجتمع لا يحبذ العنف، يعنى قليل أوى لما تلاقى اتنين بيتخانقوا مع بعض».