وكأننا في الخامس والعشرين من يناير نفسه لا في ذكرى سنوية . لا يستطيع المرء أن يصدّق أن عاماً كاملاً مضى على الغضب الشعبي المصري النظيف الذي حك طبقات التكلّس ونظّف المعدن المصري المتوهّج، وانطلق صاعداً بإصرار ووعي استثنائي، يسخر من بلادة “الأسانسير” . يعود أبناء مصر إلى الساحات كالفراشات في حضرة الضوء . يحملون أحلامهم التي ظنّها كثيرون أنها أصيبت ببلهارسيا “الترع” وماتت في ثنايا “الترب” . أعادوا توقّعات الواهمين بإمكان خداعهم إلى جحور الحسابات المعادة، وكسّرت رهانات المراهنين على نوم هذا الوعي الزاحف على وسادة نصر لم يتحقّق بعد . هم قالوا: نحن لا نحتفل بل نواصل سفينة الثورة التي لم تصل شواطئها بعد، وشتان بين النجاح والنصر . يسألون ويجيبون: هل تغيّر النظام؟ كلا وإن سقطت هالته الكثيفة وتحطّمت هيبته الزائفة، لكن في أمر الثورة بقية وبقايا . كشف الحساب لم تطبع نهاياته ما دام معتقلو أحلام المصريين لم يعيدوا للمصريين حقّهم المادي والمعنوي . لا تكون الثورة ثورة إذا لم تضع قدميها على سكّة العدل والعدالة، لأن المعنى المضاد الوحيد هو منح الظلم فرصة أخرى للنجاة وإعادة التمترس ثم المبادرة للهجوم لخطف ثمرة الثورة . ما زال الشعب المصري يكرّس نفسه مدرسة للتحضّر ونبل الحراك ورباطة الجأش وإعادة صياغة التاريخ المصري والعربي، ونسج ملحمة النفس الطويل . لقد قالها حتى في حلكة الظلام: أنا الشعب ماشي وعارف طريقي، وها هي الطريق يجري تعبيدها بالأناة والصبر ومراكمة الوعي والإنجاز، وبالتضحيات أيضاً، ولن تعيش كل منظومة تنتمي إلى القديم، فاليرقات الرخوة بإرادة الحياة تفسّخ جدر الشرانق وتخرج معانقة شمس الحرية . خرج الشعب المصري في المدن والأرياف ينشد الشمس غير مكترث بلسعات البرد، خرج وجبهته الداخلية الساخنة تتحدى التدخل السيبيري البارد في طقس الثورة المستمرة . خرجت حناجره تصدح لمن يهمه الأمر وأيضاً للمشككين بجدوى الانتفاض كلما أطلّ تحد برأس واحد بين ملايين سنابل القمح الملأى بانحناء التواضع ووقود الخبز الحاف . يخشى الخائفون على مصر ممن يسرقون ثورتها ومن حقّهم أن يخشوا، لكن هل سمعتم أن لصاً تمكّن من الاحتفاظ بما سرقه طويلاً؟ سرقة الثورة جريمة، فهل من جريمة كاملة؟ . لا هذه ولا تلك، فالسارق مخلوق من خارج منظومة البشر والجريمة ليست حاكماً على مملكة التاريخ، ومصر أكبر من أن يمنحها الشعب شيكاً على بياض لمتطفّل طارئ أو هاو لركوب أمواج الثورة . هذه الثورة ملك لأولاد سمر خضر العمر في عموم الحواري، ولبنات مخطوبات في المهد لحرير الحواري . ليست برتقالة يقشّرها من لم تطأ قدماه الحقل ساعة الزرع وقفز إليه لحظة القطاف . هذه مصر لم تعد المذبوحة التي تدفع الديّة، ولن تعيش مطيّة ل “الدبّورة والكاب” تماما كما بشّر لها فنانو الشعب ممن حلّقوا ذات حقبة من عمرها في سماء ثورة ظنّها البعض كفّاً يلاطم مخرزاً، فإذا بها ملايين القبضات تتحدى الجمر نبت بين أصابعها فانطفأ خجلاً أو احتراماً أو اعترافاً بفارق القدرة على الصبر والصمود . هذه مصر، وهذا شعب مصر صنوان لا ينفصمان، رداً على سؤال التاريخ بحزم وبجواب نهائي أن ل “الدبورة والكاب” مكاناً هناك بعيداً عن الشعب قريباً من أعداء مصر والأمة . هذا شعب مصر يحافظ على طرحة العروس بيضاء وشمس الحرية في كبد سماء الثورة السائلة استنكارياً: “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟” . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية