عندما اصطحبته عمته فى سنوات عمره الأولى إلى أحد البنوك سألها قائلاً: «هل من يقوم بإيداع أمواله فى هذا المكان يستردها كما هى أم تتضاعف».. كان قادراً على تخيل مستقبله للدرجة التى جعلته يمتلك محفظة استثمارية منذ نعومة أظافره، ويحول «فلوس العيدية» إلى استثمار.. من هنا تنبأت له أسرته باستكمال مسار جده، لا يرجع ذلك لكونه يحمل جينات عائلته صاحبة الجذور الاقتصادية فقط، وإنما لشغفه بالاقتصاد والإدارة، ولما لا وهو حفيد «أبو الاقتصاد» طلعت حرب. تحمل مسئولية نفسه وهو الفتى المدلل فى أسرته، لم يستند إلى تاريخ عائلته، ولا نجاحات والده فى مجال الاستثمار وأوراق المال، وإنما شق طريقه بمفرده، حتى لا يقال إن لوالده واسمه الفضل فى ذلك، وكى يتحمل نتائج قراراته، من فشل ونجاح، عشقه للابتكار وعدم التقليدية دفعته إلى التخلى عن وظيفته الحكومية، معيداً فى تجارة الإسكندرية، ليحقق طموحاته فى القطاع الخاص، أصدقاؤه يلقبونه بالحكم الذى لا ترضى قرارته أحدا. شريف سامى رئيس الرقابة المالية.. يحمل فلسفة من نوع فريد، تقوم على المهنية والتعامل مع الأمور باحترافية، وليست الشهادات، هو دبلوماسى إلى أبعد الحدود، واضح وصريح، غير صدامى، يشعر بالإحباط عندما لا يحس الآخرون بدوره ومجهوداته. بالطابق الثالث فى الحى المالى بالقرية الذكية، يسود الهدوء، لا تسمع إلا صوت الأقدام، فى غرفة أكثر اتساعاً، وعلى نهاية مائدة طويلة خصصت للاجتماعات، جلسنا، وبدأت ملامح التعب والإرهاق على وجه الرجل، ربما من كثرة مشاغله التى لا تنتهى... اخترت أن يكون الحوار تارة بصفته مسئولاً، وأخرى بصفته مواطنًا مصريًا. «التفاؤل المطلق سذاجة، لكن المشروط قمة الواقعية» هكذا كانت البداية... المشهد يمتلك عناصر واعدة، ولكن لا يلبى الطموحات، بالتأكيد قاعدة صناعية، يد عاملة وأراضى، زيادة فى إتاحة الطاقة، اكتشافات بترولية، إضافة إلى ثروة معدنية كبيرة لا تزال غير مستغلة بالصورة المطلوبة، البنية الأساسية متوافرة، وكذلك السياحة، ولكن يتبقى الحل السياسى لقرارات بعض الدول المهمة من حظر وتحذير السفر إلى مصر سياحياً، لتكتمل الدائرة. للواقعية فى وجهة نظر رئيس الرقابة المالية عناصر، تتصدرها ترجمة توجيهات رئيس الدولة، وبرنامج الحكومة إلى إجراءات ملموسة على أرض الواقع تتشابك بتيسير الإجراءات المرتبطة بإصدار التراخيص وتخصيص الأراضى، وسرعة إنهاء الجدل الدائر حول عدد من التشريعات الجوهرية لأى مستثمر وطنى أو أجنبى، بتشريعات، وليس المقصد هنا فقط القوانين، وإنما الشيطان أحياناً يكمن فى التفاصيل، وبالتالى التشريعات تمتد إلى اللوائح التنفيذية، والقرارات الوزارية المنفذة لها، والكتب الدورية للوزارات والهيئات، ومن أهم تلك التشريعات، قوانين الضرائب، الاستثمار، الإفلاس، إصلاح قانون العمل، والإسكان، وكل ذلك هام للاقتصاد، وكذلك ما يخص اختصاصات الهيئة، والتأكيد تحديث قانون الشركات، واستحداث التعديلات لقانون سوق رأس المال، التى تم الموافقة عليها مؤخراً استعداده فى التعلم خلق لديه وعيًا مبكرًا، يفوق عمره الزمنى بمراحل، ومن هنا تكون رؤيته الخاصة فى جذب الاستثمارات للمحافظات، حافزًا لموازنة المحافظة التى يديرها، حتى تتعاون أجهزة المحافظة، وتكون صديقة للمستثمر، بهدف استقطاب المزيد، بالعمل على تشريعات الموازنة العامة للدولة، والضرائب حتى توجه لموازنة كل محافظة حصة من الضرائب العقارية، وضرائب الدخل والشركات، والقيمة المضافة، وكذلك ضرائب الشركات المحقق فى المحافظة، ومشاركته ضمن بعثات الترويج فى الخارج للترويج عن فرص محافظته الاستثمارية، لأنه يعلم بالفائدة التى تعود على مجتمعة المحلى بإقامة مصنع جديد أو مشروع عقارى أو سياحى، حتى يكون حافزاً، من شأنه المصلحة العام، لأن استقطاب الاستثمار فى المحافظات لن يتحقق بدون عائد على موازنة، أو بدون تخصيص حصة من الضرائب للمحافظة. أقاطعه قائلاً: هل ذلك كاف لدعم الاقتصاد؟ يرد «يجب محاكاة ما تقوم به الشركات المقيدة بالبورصة، التى تعمل على برنامج واضح، ومفصل للتواصل مع المستثمرين والمؤسسات المالية والإعلام الاقتصادى، مثلما تقوم الهيئة، وبالقياس على الحكومة أن تحدد متحدثًا اقتصاديًا، وتحديد أجندة واضحة لعرض، وترويج برامجها وخططها على مدى العام من خلال مؤتمرات متتالية، وهو ليس جهد وزارة أو هيئة منفردة، وقد تكون من خلال 8 جهات تتصدرها هيئة الاستثمار، التجارة والصناعة، والمالية، والرقابة المالية والبنك المركزى والبورصة، وكل ذلك يتكامل فى الترويج للاستثمار، لأنها تمثل مدير علاقات المستثمرين فى مصر. عندما وصل «سامى» إلى مرحلة الإعدادية كانت لديه القدرة على قراءة تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات والميزانيات، بل وحضور الجمعيات العمومية ليكون وعياً مبكراً عن الأمور المالية، حيث كان والده رئيساً لهيئة القطاع العام، ويطلعه على تلك التقارير وأيضاً يصحبه فى عطلة الصيف المدرسية لحضور جمعيات عمومية، لذلك فهو يتحدث عن السياسة المالية والنقدية يقول: «نعم هما جناحا الاقتصاد فى الدول المتقدمة التى قامت بحل مشاكلها، بينما نحن نتحدث عن إصلاحات، وقوانين عمل وتأمينات، ومشاكل مستثمرين، وإصلاح إدارى، وتشريعى». دار بداخلى سؤال ترددت فى طرحه حول رضاه من عدمه عن ملف السياسة النقدية، لكن يبدو قرأ ما بدخلى.. فبادرنى قائلاً: «سوف أجيب بصفتى عضواً بمجلس إدارة البنك المركزى ولجنة السياسات النقدية، بالتاكيد تأخر ما تم إقراره، من تحرير سعر الصرف، واختزال تلك القرارات فى شخص المحافظ، فهناك كوادر ذات خبرة، لا أقصد نواب المحافظ وإنما مساعدوه، والشباب فى إدارات المختلفة والبحوث، وكل هؤلاء كانوا فى مناقشات ومشورة مع المحافظ التى انتهت بتحرير سعر الصرف، كما لا يمكن اختزال خفض قيمة الجنيه ومعدلات التضخم التى وصلت إلى 30% إلى مجرد تحرير سعر الصرف». وتابع «من يلوم تحرير سعر الصرف وما شهدناه من تأخر، وانخفاض القوة الشرائية للجنيه، مثل النعامة التى تدفن رأسها فى الرمال، وسعر الجنيه أمام الدولار كان مصطنعًا، وكان جزءًا من المعاملات يتم خارجها، حيث كان سعر الدولار بنحو 8.9 جنيه، وهو سعر اصطناعى، كان يتم تنفيذ بعض المعاملات، والباقى يتم فى سوق موازية». الرجل اكتسب من مشواره العملى بالخارج والتعرف على مدارس مختلفة الخبرة، لتكون فى مسيرته منصة للابتكار، ورؤية خاصة فى النتائج السريعة التى تلت تحرير سعر الصرف، والقفزة الهائلة فى تحويلات العاملين بالخارج، والإقبال الكبير للأجانب على شراء السندات وأذون الخزانة، وكذلك إحجام تداولات البورصة، وصافى مشتريات الأجانب التى تحققت فى الأشهر الماضية. عدت مرة أخرى لأقاطعه قائلاً: كل هذا جيد، ولكن رجل الشارع لا يهمه كل ذلك. يجيب «نعم رجل الشارع لا يهمه تحرير سعر الصرف من باب مكرها أخاك لا بطل، ولكن كان يهمه حياة كريمة فى ظل أسعار مقبولة تتناسب مع دخله، وذلك يعنى ملخص برنامج الحكومة كله وليس دورًا لبنك مركزى أو وزارة بعينها، البنك المركزى يساند فى السياسات النقدية». الإصرار على تحقيق الهدف، من السمات التى يكتسبها رئيس الرقابة المالية من والده، رغم أنه من أنصار مدرسة عدم النصح المباشر، وإنما المتابعة، ومن هذا فإن الرجل لا يحدد قطاعات بعينها لقيادة قاطرة الاقتصاد، وإنما يجب أن تسير متوازية، بحيث لا تأتى تمويل مشروعات متناهية الصغر على المشروعات التمويل الكبرى، فكل له دوره سواء للحد من الفقر، والتعامل مع البطالة. حينما أنهى دراسته الثانوية كان أمامه الالتحاق بالجامعة الأمريكية، وهو القادر على ذلك، لكن قرر الالتحاق بتجارة الإسكندرية، من منطلق القدرة على النجاح والإصرار على الوصول للحلم تتحقق فى أى ظروف، وكان ما أراد، كل هذا جعله منشغلاً بتحقيق ما يرضى السوق ومجتمع الأعمال، بالعمل على تطوير كيان الرقابة المالية سواء على المستوى التشريعى أو الهيكلى، وكانت تعديلات قانون سوق المال الذى قطع فيها شوطاً طويلاً، استمر 3 سنوات إلى أن تحقق ما أراد بظهوره إلى النور، والموافقة على هذه التعديلات، وقانون استقلالية الرقابة المالية الذى لا يزال منذ صدور تعديلات الدستور الذى تم الاستفتاء عليها فى يناير 2014، وقامت الهيئة بإعداد قانون استقلالية الرقابة، كما نص عليها الدستور، وأرسل إلى الحكومة فى «مايو» 2014، ونأمل سرعة إصداره. مجتمع سوق المال يحيا حالة من الشد والجذب فى نشر أسماء المتلاعبين من المستثمرين على شاشات التداول بالبورصة، باعتباره نوعاً من الردع والعقوبة الأقصى تأثيراً من الغرامات المالية، لكن رئيس الرقابة المالية له وجهة نظر خاصة فى هذا الاتجاه، أنه لا حاجة إلى نشر أسماء المتلاعبين على الشاشات، لأن ذلك يكون اشتباهاً، وليس حكماً، وهو يمثل إجراء احترازيًا لحماية السوق. أساله قائلاًك لكن هناك حالة استياء بسبب التقييمات الخاصة بالطروحات، المبالغ فيها. ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة قبل رده، قائلاً: «أساس الرقابة المالية حماية المستثمرين أو المتعاملين، وحينما تتقدم شركة عامة أو خاصة، مهمة الرقابة، تحديد سقف للقيمة، والنزول عنه متاح، لأسباب تجارية أو لجاذبية الطرح، والرقابة المالية تنظر من حيث المنهجية واستيفاءها لكافة الإفصاحات المطلوبة للسوق، والهيئة ليس بديلاً عن أن المتعامل أن يدرس الفرصة الاستثمارية، وطلب المشورة من الشركات العاملة فى السوق، خاصة أن 90% من الهيئات المالية فى العالم لا علاقة لها بدراسات التقييم، ولا تنظر إلى التسعير أو القيمة العادلة تتصدرها أمريكا وأوروبا، فالأهم سلامة الإفصاحات والنظام الأساسى، والقضايا المرفوعة على الشركة من عدمه لحماية المتعاملين. أسأله ما حقيقة تدخل الدكتورة سحر نصر وزير الاستثمار فى حسم ملف مخالفات المساهم الرئيسى فى أوراسكوم للاتصالات والإعلام؟ ارتسمت الابتسامة على وجهه قائلاً: «لم تتدخل الوزيرة بشأن يخص الرقابة المالية فيما يتعلق بهذا الموضوع، إلا لو كان المقصود إصدارها بصفتها الوزير المختص بقانون سوق رأس المال تعديلات اللائحة، أضافت بابًا جديدًا، للتعرف على المستفيد النهائى وتحديد الإفصاحات المطلوبة من صناديق الاستئمان وهى أحد أشكال الملكية غير المعروفة فى التشريعات المصرية». الرجل ليس من هواته التفاصيل، طبيعة عمله تضطره للدخول فى التفاصيل لضمان السهولة واليسر فيما يتعلق بالعمل، فمنذ توليه مسئولية الرقابة، حدد استراتيجية متكاملة نجح فى تحقيق 75% منها تتضمن ما صدر وتم تطبيقه، بالإضافة إلى مشروع تعديلات سوق المال الصادرة مؤخراً. يظل يوم 2 أغسطس عام 1990 محفوراً فى ذاكرة الرجل ليس بسبب الغزو العراقى للكويت، وإنما لكونه اليوم الذى حصد ثمار جهده وتعبه بالخارج، باعتباره واحداً من فريق العمل الذى أسس أول بورصة إلكترونية فى السعودية، وتم العمل بها فى نفس يوم الغزو، لايزال «سامى» يسعى لإنهاء ما تبقى من استراتيجية تتعلق بملف التأمين وصناديق التأمين الخاصة، والعمل على استكمال المنظومة الداخلية فى الهيئة التى تعتمد على 3 محاور هامة تتمثل فى تعديلات جوهرية فى الهيكل التنظيمى، واستكمال الطفرة الكبيرة فى تكامل نظم المعلومات وإمكان استخدامها من المتعاملين مع الهيئة. يشعر بالإحباط عندما لا يقدر أحد دوره فيما حققه فى السوق والتمويل، رغم جهوده المتواصلة، وهيئة الرقابة المالية فى سوق ناشئ يكون له دور الرقابة وحماية السوق والمتعاملين، وتنمية الأنشطة والمتعاملين والمهارات، والآخر الأكثر إمتاعاً ما يضيف ويبنى فى الاقتصاد على المدى المتوسط الطويل، خاصة أن رؤساء هيئات فى أسواق متقدمة مثل: ألمانيا وإنجلترا واليابان وأمريكا، لم يعد لديهم مجال كبير فى ذلك. «كلهم أبنائى».. هكذا يصف مختلف الأنشطة والأدوات المالية التى تشرف عليها الهيئة، فلا تمييز بين تأمين أو سوق مال أو تمويل عقارى أو تخصيم أو متناهى الصغر.. وإن كان يقر بأن سوق المال لتشعبه يأخذ جزءًا كبيرًا من وقته والتمويل المتناه بحكم أنه تجربة جديدة ولها أثر اجتماعى هام. الرجل عاشق للقراءة، شغوف بالاطلاع والمعرفة، فمكتبته تضم كنوزاً مختلفة تتجاوز 400 مؤلف وكتاب، متعته وسعادته فى التجوال والسفر، والارتباط بكل ما يتعلق بالماضى، لما تحمله من ذكريات تضيف سعادة إلى قلبه، محب للألوان التى توحى بالرسميات، يميل إلى الوحدة لمراجعة النفس، لكن يظل هدفه الأول تحقيق منظومة متكاملة للسوق، ووضع الرقابة على قمة الهيئات فى الأسواق المتقدمة.. فهل ينجح فى تحقيق ذلك؟