فى الجمعة الماضية قام عدد من شباب الحى الذى أقطن فيه بحمل معدات بناء وانطلقوا صوب حفرة عملاقة بملف حيوى بطريق الواحات، ثم اجتهدوا فى ردم تلك الحفرة بسواعدهم ومعدّاتهم ولم ينقصهم سوى قليل من مادة الأسفلت عجزت إمكاناتهم المحدودة عن توفيره لإتمام العمل الذى كان من المفترض أن تقوم به الدولة. هذه الحفرة هى نتاج أخطاء فاحشة لحمولات متجاوزة وغير آمنة لعدد من "التريلات" العملاقة على الطريق، وقد استمرت فى الاتساع لعدة أشهر تسببت خلالها فى كوارث مفجعة، أبسطها إحداث شلل بحركة المرور بالطريق لمسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات!. ما قام به الشباب من عمل تطوّعى يحتمل مقالات طوال فى وصف الشهامة والإيثار وفعل الخيرات، لكن ما لم تقم به الدولة ممثلة فى هيئة الطرق أو أى هيئة أخرى تنازعها الصلاحيات هو الأزمة الحقيقية التى تفرغ الدولة من أسباب نشوئها. الدولة الحديثة لم تنشأ لاستعراض أسلحتها وعناصر بطشها، ولم تكن هيبتها وقفاً على عدد ما فيها من سجون ومعتقلات، ولا حجم آلتها العسكرية التى تستخدم غالباً لقمع الاحتجاجات الداخلية..أبداً، فالدولة الحديثة مثل حكم مباراة كرة القدم، تعرف مهارته كلما انعدم شعورك بوجوده فى أرض الملعب. كذلك نظام الحكم الحديث، يتحرك بخفة ورشاقة لا ليفتتح المصانع ويدشّن المكتبات تحت عدسات التلفزيون، ولكن ليمهّد الطرق ويغرس الأشجار ويشق الترع والناس نيام أو كل فى فلك يسبحون، لا يصطفون للهتاف والتصفيق ثم ينفض المولد ويترك المشروع المفتتح بغير عناية أو صيانة أو أدنى اهتمام. كذلك شأن الطرق الجديدة فقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها لأنهم شقوا هذا الطريق أو ذاك، لكنهم ذهلوا عنه منذ لحظة مغادرة المسئول الكبير الذى افتتحه، انصرفوا جميعاً كأن ذهابهم ورواحهم قرين بوسائل الإعلام. الدولة عندنا عرض مسرحى من عدة فصول، لكن الفصل الذى يحظى بعناية الممثلين وفريق الإخراج هو أكثرها شعبية، الذى يكتم خلاله المشاهدون أنفاسهم لسماع نكتة أو ما شابهها. غيبة الضمير هى آفتنا الكبرى التى من عجب انتشرت وفشت فينا بينما يزعم غالبية الناس أنهم يريدون حكم الشرع؟! هل ظن أولئك أن شرع الله يخلو من محاسبة الضمير؟! مالكم كيف تحكمون؟ّ! الدولة تغيب عن كثير من المشاهد، لكننى خصصت هيئة الطرق بالذكر لأن عدد الموتى على طرقاتنا السريعة بلغ مبلغاً مخيفاً. فالطرق السريعة مليئة بالحفر والنقر والطوب والزلط والرمل والأسياخ البارزة من حمولات سيارات النقل والتريلات المخالفة لكافة المواصفات والسرعات الجنونية والحمولات المفرغة فى عرض الطريق..ثم بعد ذلك يحدثوننا عن انفلات أمنى وانتشار للسلاح بين المواطنين؟! أليست كل هذه المخاطر أسلحة قاتلة؟ أليست السيارة أو حتى "التوكتوك" يقوده طفل صغير لا رخصة ولا عقل له سلاحاً يتهدد حياة البشر؟! إننا جُبِلنا على ألا نرى من الأشياء غير ما تراه عدسة الإعلام وتركز عليه الأضواء، لذلك لا نرى انتشار الأوبئة إلا حينما تقوم وسائل الإعلام بعمل حصر يومى لضحاياها، فإذا غفلت عنها العدسات وانتقلت إلى مشهد أو فصل آخر من مسرحية الدولة نصبح وكأننا شفينا تماماً من هذا الوباء!. لا نرى حوادث الطرق إلا إذا قام برنامج فضائى بتبنّى حادث أليم لشخصية شهيرة، فإذا مر وقت البرنامج وحلقة الإعادة انصرف الناس عن فواجع تلك المأساة المزمنة...هذه طبائع الممثلين والمتفرّجين لا طبائع النظام والمواطنين!. إننا نحن المشاهدين اليوم للجثث على الطرقات، المصوّرين لمشاهد الدم رغم تعطيلنا للمسعفين إذا أتوا، غداً تنهشنا أعين المارة مدرجين فى دمائنا ثم سرعان ما تنصرف عنا إلى مشهد جديد. ربما يحمل مقالى نبرة يأس من الدولة، لكنه ينبض بالأمل فى ضمائر بعض الرجال (صفة لا نوعاً) كمثل هؤلاء الفتية الذين ردموا حفرة الموت بطريق الواحات، لا كمثل الضابط الكبير الذى مر بهم يسائلهم عن حاجتهم، فلما طلبوا "أقماع" لإحاطة الحفرة حتى تجف مواد الردم، انصرف الضابط فبوعد أن يرجع بالأقماع لكنه ذهب ولم يعد!. ربما يحمل مقالى نبرة يأس لأننى طالما كتبت عن كوارث الطرق تحت عنوان "قبر الراكب المجهول" وغيرها من عناوين تستنهض الضمائر والواجب، لكن ساكناً لم تحركه الدولة أو مشهداً لم يتغير فى مسرحية الدولة.