بعد ثورة الخامس والعشرين صدرت في المحروسة العديد من الوثائق ذات الطابع السياسي بهدف بلورة تصورات التعامل مع الزمن الآتي في مصر خاصة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية والتي تشهد فيها الدولة عملية إعادة بناء لهياكلها ومؤسساتها على نحو مغاير لما كان سائدا خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها حسني مبارك مصر لكنها جميعا شهدت تباينات فيما تبنته من طروحات ورؤى وقواعد ولم تحظ بالتوافق إلا وثيقة الأزهر الشريف التي صدرت يوم الأربعاء المنصرم مبلورة الموقف من الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والتي بدا لي أنها تجسد بعمق وإخلاص وشفافية حالة الإجماع الوطني التي ظلت غائبة ومتفقدة خلال الأشهر العشرة الماضية بين القوى السياسية والثورية ومؤسسات الدولة المؤقتة وفي يقيني إن نجاح الدكتور أحمد محمد الطيب الإمام الأكبر شيخ الأزهر في حشد كافة رموز القوى السياسية والدينية في المحروسة يمثل تطورا نوعيا في أداء هذه المؤسسة التي يقودها منذ حوالي ثلاث سنوات باتجاه بلورة وعي وطني يقوم على النظر إلى المصلحة العليا للبلاد وليس لصالح هذه القوى أو المؤسسات فرادى وبعيدا عن الشطط في المنظور أو الفكر ويسعى إلى تكريس مرجعية يرضي بها الجميع على تباين مواقفهم السياسية وانتماءاتهم الدينية وتجلى ذلك في حضور إعلان الوثيقة بمقر مشيخة الأزهر في مشهد نادر قيادات المؤسسة الدينية بشقيها المسلم والمسيحي وعلى أعلى المستويات بما في ذلك الأنبا شنودة والذي كان لا يشارك في مناسبات علنية في السابق ربما لأسباب صحية تعبيرا عن احتجاج صامت فضلا عن مشاركة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع وقيادات حزب الحرية والعدالة والقيادات السلفية بمختلف تنويعاتها إلى جانب رئيس حكومة الإنقاذ الوطني الدكتور كمال الجنزوري ورؤساء الأحزاب السياسية المؤثرة في المشهد المصري ومفكرون ومرشحون محتملون لانتخابات الرئاسة الجمهورية. ومن المقرر الإعلان عن تفاصيل بنود وثيقة الأزهر في ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير الحالي تزامنا مع الذكرى الأولى للثورة التي انطلقت في هذا اليوم من العام المنصرم منقذة المحروسة من دمار مهلك كاد أن يحيق بها من فرط تحالف رموز الثروة والسلطة الفاسدة ومشروع توريث البلاد لنجل مبارك الذي كان يعد في أحضان النظام تحنو عليه كل رموزه وتتعامل معه باعتباره الرئيس القادم وأظن أن هذا السلوك يعكس توجها صادقا من قبل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب للتفاعل مع صناع ثورة يناير الحقيقيين وهو طليعة شباب المحروسة الذين خرجوا في الخامس والعشرين من يناير المنصرم حاملين أشواق العباد وأحلامهم إلى الحرية والعدالة والكرامة ليؤكد لهم أن المؤسسة الدينية بكل تاريخها وحاضرها وما تنطوي عليه من رمزية ليست في تناقض مع هذه الأشواق والأحلام والتي لم تكن تجد مناصرا يدافع عنها ويبلورها على أرض الواقع وأنها عبر هذه الوثيقة تكرس قواعد الحريات الأساسية التي هفت لها الأفئدة والعقول لتشكل الأرضية التي تنهض عليها القواعد التي ينبغي أن يتأسس عليها الدستور القادم وهي حرية الاعتقاد الديني وحرية الرأي والتعبير وحرية الأدب والإبداع وحرية البحث العلمي والتي لا يمكن أن يتباين طرف مع آخر بشأنها مهما كان انتماؤه أو معتقده ولعل الأهمية أو بالأحرى الميزة النسبية لهذه الوثيقة - إن جاز لي القول – تكمن في أنها تنطوي على رسائل اطمئنان لجميع أرقام المعادلة السياسية والدينية في المحروسة خاصة مع صعود التيار الإسلامي بشقيه الإخوان المسلمون والسلفيين إلى صدارة المشهد السياسي في ضوء النسب العالية التي حققها مرشحوه في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بمراحلها الثلاث فقد خشت قطاعات واسعة من أبناء الشعب المصري بمسلميه ومسيحييه من هذا الصعود للتيار الإسلامي السياسي وبالذات على ما يمس الحريات الأساسية المعاملات خاصة في قطاع السياحة والمصارف فضلا عن ممارسات الواقع اليومية وهو ما برز في الإعلان عما يسمى بجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتي تشكل سلطة موازية تحاسب الناس في الطرقات والشوارع وفي مواقع العمل مثلما يحدث في النموذج السعودي فضلا عن تخوفات طالت الجزء المسيحي من الشعب المصري والذي ترددت أقاويل هجرة البعض منه للخارج أو الاستعداد لهذه الهجرة ولكن الوثيقة في ظل ما حشدته من إجماع تقدم تطمينات واضحة والتزامات مؤكدة بأنه لن يمس أحد حرية المعتقد الديني ووفقا للدكتور الطيب نفسه فإن ثمة نصوص دينية قطعية وأصول دستورية وقانونية تكفل حرية العقيدة وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع دون أن يمس ذلك الحق في الحفاظ على العقائد السماوية وقداستها بالإضافة إلى إقرار حرية إقامة الشعائر الدينية دون عدوان على المشاعر أو المساس بحرمتها قولا أو فعلا ودون خلل بالنظام العام مؤكداً حق حرية الاعتقاد والتسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص وجمع الحقوق والواجبات مشددا على أن حرية الاعتقاد ترفض نزعات الإقصاء والتكفير ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين. وفيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير فإن فضيلة الإمام الأكبر يعتبرها أم الحريات كلها فضلا عن كفالة حق التعبير عن الرأي بمختلف وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء بالإضافة إلى الحق في تكوين الأحزاب وإبداء منظمات المجتمع المدني لرأيها ومن الأهمية بمكان أن يتم التشديد على هذه القواعد الحاكمة والضرورية في الدستور المقبل حتى لا يكون من حق طرف ما إن يتشكك في منظومة القواعد السياسية والوطنية الجامعة للأمة بكل مكوناتها وبالتالي لا يثير مخاوف غير حقيقية تتسبب في هز أركان السلام الاجتماعي الذي بات مطلوبا بإلحاح في مرحلة إعادة بناء المحروسة التي تعرضت خلال الثلاثين الأخيرة لعملية هدم منظم ومبرمج لصالح عائلة مبارك والطبقة الجديدة التي تحالفت معها وما يهمني قوله هو أن وثيقة الأزهر الجديدة فضلا عن الوثيقة التي أعلنت قبل أشهر تمثل بنيانا قويا في مشروع النهضة الذي يتعين أن تخطط له السلطة القادمة في المحروسة وهو ما تجلى بشكل واضح ربما للمرة الأولى من قبل هذه المؤسسة التي تقود تيار الاستنارة والوسطية في مصر والعالم الإسلامي فيما حملته من دعوة إلى حرية الفن لترقية الإحساس وتنمية الوعي بالواقع وتثقيف الحواس الإنسانية وتعميق خبرتها بالمجتمع والأشخاص بالإضافة إلى نقد المجتمع من أجل الأفضل ولكن بما لا يتعرض للمشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة إلى جانب تأكيدها على حرية البحث العلمي باعتباره قاطرة التقدم البشري واكتشاف الكون ودعوتها إلى ضرورة حشد طاقة الأمة وإمكاناتها للبحث العلمي وهو ما أكد عليه القرآن في الحث على التفكير والقياس والتأمل في الظواهر الكونية واعتبار ذلك فريضة إسلامية في مختلف الشرائع. ولفت انبتاهي هذه المناشدة الصادقة التي وجهها الإمام الأكبر للأمة الإسلامية والعربية بالعودة لسباق القوة وعصر المعرفة بسلاح العلم والبحث العلمي لنهضة المجتمع وتطوير مراكز البحث والإنتاج العلمي مع ضمان سقف للبحث العلمي والإنساني والقضاء على احتكار الغرب للتقدم العلمي وهو ما يؤكد انحياز الأزهر وشيخه لمشروع النهوض المطلوب بقوة لمصر وللأمة العربية والإسلامية فهل نتحرك الآن جميعا لمقاربة مبادئ وقواعد هذه الوثيقة باتجاه معانقتها لمفردات الواقع اليومي؟