أحمد زكى شخصية لا تعرف سوى الصمود والتحدى، وتحدى كل الصعاب، مهما كانت، وهذا ما فعله مع الموت، فالرحيل أعطاه صك الخلود، خاصة عندما جسد مشهد الوفاة مع ملك الموت قبل ساعات من رحيله وكأنه يريد مزيجاً من التشجيع والإعجاب، وقد تكون إحدى حيله حتى لا يعرف المحيطون أنه فقد البصر نتيجة لوجود ضغط على عصب البصر ما أفقده الرؤية، ليهرب من تدهور حالته النفسية.. وللموت جمال وأجمل ما فيه أنه يأتى فى الوقت المناسب لا يتأخر دقيقة واحدة، وفى يوم 27 مارس 2005 جاء فى زيارته الأولى والأخيرة إلى الفتى الأسمر، المشاكس دائماً «أحمد زكى» وحمله على جناحيه إلى عالم الخلود مخلصاً إياه من أقسى شىء على نفسه وهو الإحساس بالضعف وقلة الحيلة، ليحصل على دور البطولة المطلقة على خشبة مسرح الحياة فى دور «مونودراما» (مسرحية الممثل الواحد)، وكم كان تلقائياً وعفوياً ورائعاً كالمعتاد، لتحمله الجماهير المحبة على أعناقها إلى حيث سيبقى دائماً أبداً فى القلوب والعقول. بعد الرحيل نعشق وضع صورة الراحلين فى برواز محلى بشريطة حرير سوداء، ولكن مع أحمد زكى لا يوجد إطار من الممكن أن تحيط به صورته، فهو كالمعتاد سيقفز منها هارباً رافضاً القيود، لذلك لم يكن غريباً أن يعيش عمره فى أحد الفنادق الخمس نجوم بوسط القاهرة، رغم أنه يملك شقتين مجهزتين وعاش فترة طويلة بالفندق، وفى مرضه تعامل الفندق مع الوضع بمنتهى الإنسانية وتحمل الضغط الهائل على البريد الإلكترونى للفندق وخطوطه الهاتفية بتخصيص خط هاتف وبريد إلكترونى خاص للرد عن الاستفسارات الخاصة بالفنان أحمد زكى، وتلقى الفندق أثناء فترة مرض أحمد زكى حوالى مليون رسالة و3250 طرداً من جميع أنحاء العالم، يحمل بعضها «حبة البركة» من اليمن، ومياه زمزم من السعودية. إنه المتمرد على كل القيود، المغرد خارج السرب ولكنه تغريد يضيف إليه وللآخرين، ورغم تعدد أدواره، فإننى أراه هذا الإنسان البسيط الذى يشبه عوام المصريين، فهو «حسن هدهد» فى (كابوريا)، الشاب الفقير عاشق الملاكمة والحالم بالوصول إلى الأوليمبياد، والعاجز عن تحقيق الحلم ولكنه فى نفس الوقت الرافض لآن يكون دمية.. وهو أيضاً «عيد» (أحلام هند وكاميليا) المتصرف بحرية وعفوية ويحاول جاهداً الحفاظ على هذه الحرية ويهرب من أى قيود، حتى بعد زواجه من هند نراه يعيش تناقضات كثيرة بين اشتياقه للحرية وبين مسئوليته تجاه زوجته وابنته أحلام.. وهو عبدالسميع (البيه البواب) النازح إلى القاهرة برفقة زوجته وأولاده للبحث عن لقمة العيش فيعمل بواباً بإحدى العمارات وبذكائه يتمكن من العمل سمسار بجانب مهنة البواب ولكنه يقع بين جشعه وأيدى اللعوب إلهام هانم ليفقد كل شىء.. وهو «متولى» أخو شفيقة القاتل، القتيل فى نفس الوقت بالقهر والذل والسخرة والبحث عن لقمة العيش.. وهو «شكرى» الكوافير البسيط فى (موعد على العشاء) الذى يغرق فى بحر من العواطف ويدفع حياته ثمناً لها.. وهو «فتحى» (الليلة الموعودة) الذى يحاول استرداد نقود أمه من «سيد» الذى نصب عليها، ويستوقفك كثيراً مع شخصية الطبال «عبده» مدرب راقصة الموالد مباهج ومحولاً إياها إلى راقصة مشهورة، الرافض الزواج منها خشية أن يشغله الزواج عن مستقبله الفنى! الفاشل فى تقديم فاصل عزف بالطبلة بدون راقصة فينهار ويدمن المخدرات، ويصاب بالجنون.. وهو «سرور» فى (الدرجة الثالثة) همزة الوصل بين طرفى الصراع (جمهور المقصورة والدرجة الثالثة) الإنسان البسيط الساذج المستغل من قبل إدارة النادى.. وتصدقه عندما أصبح شخصية «حسين» (المخطوفة) الشاب العصامى العائل لأمه وأخته من دخل سيارة الأجرة التى يمتلكها، والذى تنهال عليه طلقات رصاص الشرطة ليلقى مصرعه.. وهو «صلاح» (مستر كاراتيه) الريفى الذى تضطره الظروف إلى الذهاب للقاهرة للعمل فى أحد الجراجات فيلتقى بأنماط بشرية مختلفة.. وأيضاً «حسن» السائق (سواق الهانم) الذى تستعين به عائلة ثرية من سلالة العائلة المالكة كسائق لهم ولكنه يساعدهم فى حل العديد من المشكلات.. وهو (حسن اللول) المهرب من بورسعيد، المصطدم بنفوذ سياسى.. ومعه فى (البطل) نعود إلى الإسكندرية عشية ثورة 1919 فنراه «حودة النجار» الهاوى للملاكمة، محققاً حلمه فى مصافحة زعيمها سعد زغلول، والاشتراك فى أوليمبياد 1924 كملاكم، ورغم هزيمته بسبب انحياز الحكم، لكنه يتمكن من الاشتراك فى أوليمبياد 1928 وتحقيق الفوز.. لنغنى جميعاً مع «زين» (هيستيريا) خريج فى معهد الموسيقى العربية الذى انتهى به الأمر للعمل فى الغناء فى مترو الأنفاق.. ويشدك إلى «أحمد» (شادر السمك) العامل البسيط الريفى، الذى يخطفه بريق السلطة والنفوذ، وتنتابه روح الأنانية المفرطة ويزداد طغيانه فارضاً سياسة الاحتكار متنكراً لمبادئه وأصله فيضيع.. وهو «أحمد سبع الليل» الريفى الفقير والذى لا يعرف من الدنيا إلا قريته والبلد بالنسبة له هى الحقل الذى يزرعه بنفسه والترعة، المنخرط ضمن قوات حراسة أحد المعتقلات الخاصة بالمسجونين السياسيين المدرب على السمع والطاعة.. ومع كل هذه الشخصيات من البسطاء سترى أن الصورة الأقرب إليه هى «سيد غريب» (اضحك الصورة تطلع حلوة) المهاجر من بلدته إلى القاهرة بحثاً عن مكان قريب من كلية طب قصر العينى التى التحقت بها ابنته والمصطدم بالمجتمع الأرستقراطى، ولكنه يرفض الخنوع ويأخذ حقه بنفسه، لقد أمتنى أحمد لما فعله الرئيس الأسبق حسنى مبارك عندما أمر بسفره إلى فرنسا لتلقى العلاج على نفقة الدولة، وكان سعيداً باتصال مبارك به، ورغم أن أحمد زكى كان ناصرياً يعشق عبدالناصر، لكنه حلم بعمل فيلم «الضربة الجوية» لعشقه لحرب أكتوبر واستعادة مصر لأراضيها المحتلة، ورغم أن مرض السرطان اشتد عليه فى الأسابيع الأخيرة، واستسلم جسده النحيل له بعدما انتشر المرض فى الرئة والكبد، وعانى نتيجة ذلك من «استسقاء بروتينى» كما أصيب بالتهاب رئوى وضيق حاد فى الشعب الهوائية، ومع ذلك تحامل على نفسه ليغرد بشخصية حليم، لتتوحد الأسطورتان فى فيلم لا يقاس بمفردات السينما العادية، لأنه توليفة من الفن والحب تنفد إلى القلوب بدون جواز مرور.. وتوالت تغريدات أحمد وصوره لتظل محفورة فى قلوبنا وعقولنا ويصبح رحيله مجرد تاريخ يكتب فى الأوراق الرسمية. حاجز اللغة منعه من الوصول إلى العالمية يظل أحمد زكى فى نظر جميع المصريين الموهبة التى لم تتكرر، ولا يوجد فرق بينه وبين أشهر النجوم العالميين مثل مارلون براندو وآل باتشينو وروبرت دى نيرو وغيرهم من نجوم هوليوود الذين عرفهم المصريون ويتابعون أعمالهم، مما جعلنا نسأل لماذا نعلم نحن كل هؤلاء وهم لا يعرفون من هو أحمد زكى. يقول الناقد طارق الشناوى: أحمد زكى موهبة لن تتكرر، وعدم اهتمام السينما العالمية به جاء نتيجة عدم إجادته اللغة الإنجليزية، وهذا ما قاله الفنان العالمى عمر الشريف فى أحد لقاءاته إن أحمد زكى لو كان لديه لغة أجنبية جيدة لكان أصبح عالمياً. ونور الشريف كان يقول فى فن الأداء أنا أستحق 7 من 10، وأحمد زكى هو الوحيد من جيلنا الذى أمنحه بلا تردد 10 من 10. وأضاف الشناوى: إنه فنان التشخيص الأول فى السينما العربية وبلا منازع، نعم لدينا نجوم قادرون على الأداء المبهر ويمسكون بالتفاصيل الخاصة بالشخصية ولديهم كاريزما وتواصل وجماهيرية، ومنهم من حقق إيرادات أعلى من أحمد زكى فى أفلامهم، إلا أن أحمد زكى فى تاريخنا السينمائى يحلق فى سماء أخرى يصعب مقارنته بالآخرين، بجانب أننا فى مصر حريصون على مشاهدة الأعمال الأجنبية، وتستحوذ على 40٪ من دور العرض المصرية، على عكس الخارج لا يوجد لديهم دور عرض بها أفلام مصرية، لذلك فنحن نقوم بتسويق النجوم الأجانب، ولا يحدث العكس لديهم. وعن إمكانية أن يصبح هيثم أحمد زكى امتداداً لأبيه، قال: هيثم فتى موهوب ودخل المجال الفنى بعيداً عن والده برغم أنه من أكمل دوره فى آخر أفلامه «حليم»، ولكن نجاح هيثم الحقيقى جاء بعد موت والده، ربما ليس لديه كاريزما أحمد زكى ولا عمق موهبته، ولكن هذه أشياء إلهية لا تقلل من قدره، وبرغم من ذلك فيوجد بينهما تشابه فى بعض الأمور، ولكن إن اعتقد هيثم أنه امتداد لأبيه تكون كارثة. تمر اليوم الذكرى ال 12 لرحيل نجم فريد من نوعه «النمر الأسود» ورغم سنوات الغياب إلا أن زكى من القلائل الذين من الصعب تعويضهم. أحمد زكى الذى استطاع بموهبته الفريدة تغيير مفهوم النجومية لم يكن أحمد زكى الفتى الوسيم أو الجان، بل كان ممثلاً موهوباً لدرجة العنصرية، أحمد زكى حكاية طويلة تصلح أن تكون عملاً درامياً مكتمل الأركان هو الفتى «الأسمر النحيل» الذى ظهر فى بداية السبعينيات فى دور صغير فى مسرحية «هاللو شلبى» أمام العملاق الراحل عبدالمنعم مدبولى ومديحة كامل والنجوم الشباب فى ذلك الوقت سعيد صالح ومحمد صبحى، لفت الأنظار بشدة فى تقليد الفنانين وكان يلعب دور «سفرجى». بعد تلك المسرحية شارك بدور أكبر فى فيلم «بدور» مع محمود يس ونجلاء فتحى فى دور موظف فى مصلحة المجارى. وفى عام 1975 رشحه السيناريست الراحل ممدوح الليثى لبطولة فيلم «الكرنك» أمام السندريللا الراحلة سعاد حسنى ولكن لظروف إنتاجية وتسويقية لعب النجم نور الشريف هذا الدور. لم ييأس أحمد زكى بل استمر على اجتهاده، ونجح فى فيلم «العمر لحظة» 1976 أمام الفنانة الكبيرة ماجدة الصباحى فى تجسيد شخصية الجندى محمد الذى يستشهد فى حرب الاستنزاف، ولا ننسى تجسيده لشخصية طه حسين فى مسلسل الأيام 1979. الانطلاقة الحقيقية الأولى لأحمد زكى سينمائياً كانت فى عام 1978 حينما قام بدور البطولة فى فيلم «شفيقة ومتولى» أمام سعاد حسنى، وأثبت أحقيته فى الفيلم بدور البطولة فى عصر كانت السينما مليئة بالنجوم، وطموحاته كانت بلا حدود، فى عام 1980 جسد دور معقد للغاية فى فيلم «الباطنية» دور ضابط شرطة يمثل دور شاب عبيط ومتخلف ليكتشف أوكار المخدرات فى الباطنية. تألق أحمد زكى بشدة فى حقبة الثمانينيات حيث قام ببطولة عشرات الأفلام الناجحة جداً، نذكر منها فيلم «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» جسد من خلاله معاناة الشباب من الفقر بسبب تواضع المرتبات فى دواوين الحكومة وكان مقنعاً للغاية، كان ذلك فى عام 1982. وفى عام 1983 قام ببطولة عدة أفلام منها الفيلم الشهير «النمر الأسود» والذى جسد من خلاله شخصية محمد الشاب الأمى عامل الخراطة الذى يسافر لألمانيا ويحقق نجاحاً أسطورياً كبطل فى الملاكمة ورجل أعمال، ويجسد فى نفس العام شخصية الشاب المدمن للمخدرات فى فيلم «المدمن» مع عادل أدهم ونجوى إبراهيم ولا ننسى شخصية الشاب المهذب التى جسدها فى فيلم «درب الهوى». وفى عام 1985 عاد للتليفزيون بمسلسل «هو وهى» أمام سعاد حسنى جسد 15 شخصية فى 15 حلقة كما شارك سعاد حسنى الغناء. نستطيع القول إن أحمد زكى قدم فى النصف الثانى من الثمانينيات مجموعة من الأفلام أقل ما يقال عنها عبقرية فيلم «البريء» مع الراحل محمود عبد العزيز فى دور الشاب القروى المجند الذى يكتشف فى النهاية أنه يوجد ناس بتحب البلد بجد من خلال فترة تجنيده. فيلم «الهروب» جسد خلاله شخصية المجرم رغم أنفه الذى يتعرض للظلم والسجن ظلماً ولا يجد مفراً سوى الانتقام ليتحول إلى سفاح فى نظر المجتمع ويقتل فى النهاية. فيلم «زوجة رجل مهم» وهو فيلم رائع جسد فيه الجانب الآخر فى شخصية ضابط الشرطة الظالم والمستبد الذى يدفع الثمن فادحاً فى النهاية، تحول تماماً فى فيلم «البيه البواب» يجسد شخصية بواب يأتى للقاهرة من أقصى الصعيد ليتحول لمليونير، وفى فيلم «الامبراطور» يجسد شخصية زعيم لعصابة مخدرات رجل بلا قلب يهدم كل القيم حتى يتحول لمدمن ويقتل فى النهاية على يد مجموعة من تجار الصنف بسبب احتكاره للمخدرات. ويكشف الفيلم أن رجال أعمال كباراً يتاجرون بالمخدرات فى الخفاء، وبجانب تلك الأفلام يقوم ببطولة أفلام خفيفة أو مرحة على سبيل المثال «مستر كاراتيه، استاكوزا، البيضة والحجر». وفى عام 1991 يقوم ببطولة فيلم «ضد الحكومة» فى دور محامى التعويضات الذى يستيقظ ضميره فجأة بعد أن يكتشف إهدار دم الأطفال الأبرياء فى حادث اتوبيس مدرسى، ويقرر مقاضاة الحكومة ومحاكم الوزراء المسئولين عن تلك الجريمة. ولا ننسى أدواره المتميزة فى أفلام «الرجل الثالث» و«أبو الدهب» و«أرض الخوف» فى عام 1995 يقتحم أحمد زكى مجالاً جديداً ليصل لأعلى مراتب النجومية حينما يجسد شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى فيلم «ناصر 56». ورغم عدم وجود أى تشابه بينه وبين الزعيم الراحل لكنه استطاع تجسيد الشخصية بشكل رائع أدهش كل من شاهد الفيلم. بعد أن انتهى أحمد زكى من هذا الفيلم، كان حلمه أن يجسد شخصية الرئيس الراحل أنور السادات، واستطاع التغلب على كل الصعاب الانتاجية حتى ظهر فيلم «أيام السادات» عام 2001 نجح أحمد زكى باقتدار فى تجسيد شخصية الرئيس السادات بدرجة مذهلة، وجسد الشخصية بكافة التفاصيل. وقرر الرئيس السابق حسنى مبارك تكريم أحمد زكى على دوره فى هذا الفيلم. بعد هذا النجاح طموحات أحمد زكى كانت بلا حدود، حيث قام فى العام التالى ببطولة فيلم «معالى الوزير» جسد خلاله شخصية وزير فى الحكومة جاء بالصدفة ويحلم دائماً بالكوابيس بسبب فساده. وبعد أن انتهى من تصوير هذا الفيلم المرض اللعين يزحف على جسده بشكل خطير ومتصاعد وسافر للعلاج وبعد عودته فى يناير 2005 تتحسن حالته نسبياً ولأنه عاشق لفنه بلا حدود وكان حلمه تجسيد شخصية العندليب عبدالحليم حافظ. ورغم محنة المرض بدأ أحمد زكى تصوير الفيلم يوم 18 يناير 2005 ويصور بعض المشاهد حتى أوائل مارس، وحدثت له انتكاسة صحيحة شديد، انتشر المرض الخبيث تماماً ليرحل عن دنيانا يوم الأحد 27 مارس 2005 ويستكمل نجله الوحيد هيثم زكى دوره فى الفيلم لتفقد السينما المصرية ظاهرة فريدة فى تاريخها، وحتى الآن مازال أحمد زكى معشوق الملايين الذي أعطى الفن كل حياته وأعطاه الفن حب الملايين. رحم الله النمر الأسود رئيس جمهورية السينما أحمد زكى.