«بنت الحلال» و«ولى العهد» و«الرزق».. كبسولات سريعة لعلاج هموم «الغلابة» إحدى المتسولات: «اقعدى معانا.. لكن لا تنافسينا فى المهنة» «شوية كلام حلو.. على شوية وعود بتحقيق الآمال»، هذه مكونات كبسولة الوهم التى يعطيها الدجال أو العراف لأى شخص يلجأ إليه طامحًا فى سماع بعض الكلمات التى تخفف من آلامه وتُعشمه بانتهاء كافة مشاكله فى المستقبل. ورغم إلقاء قوات الأمن على العديد من الدجالين والنصابين فى الفترة الأخيرة، إلا أنه لم يكن رادعًا للمتوهمين بقوة «عالم الغيب»، فطبقًا لدراسة أجراها مركز الدراسات الاقتصادية المصرية، يأتى الإنفاق على أعمال الشعوذة فى المرتبة الخامسة فى حياة المواطن المصرى، حيث يتمثل الإنفاق على التعليم 45% من إجمالى دخل الأسرة، و12% على المحمول و15% على الغذاء، و10% من إجمالى دخل الأسرة، وباقى النسبة يتم إنفاقها على السحر والشعوذة والدجل ومعرفة الغيب. «الوفد» اقتحمت العالم السرى للعرافين، وتقمصت محررة الجريدة شخصية «قارئة كف»، لكى تعرف خبايا المصريين، وما الذى يجذبهم لعالم الغيب، وهل فعلًا الدجال أو العراف يعرف «عالم الغيب» ويستطيع معرفة ما تخبئه النفوس، أم هى مهنة فهلوة و«الحدق فيها اللى ياكل عيش»؟ للإجابة عن هذه التساؤلات.. كان لا بد من قراءة بعض التفاصيل عن هذا العالم، وسألنا د. أحمد شاهين الخبير الفلكى، وكانت إجابته: «يوجد أربعة خطوط أساسية فى الكف وهي: خط الحياة الذى يمتد فى الجانب النصف قطرى من اليد بين الإبهام والسبابة يتقوس حتى القبضة، وخط القدر قريب من خط الحياة، أما الثالث: خط الرأس، وهو مرآة لقياس قدرة الشخص على التعقل والتركيز الذهنى، والاستيعاب، وأخيرًا خط القلب، يولد من تحت مرتفع المشترى ويجتاز الراحة على طول الأصابع وينتهى عند جذور الأصابع، وهذا الخط يعكس الشخصية العاطفية والقدرة التأثيرية وطبيعة المشاعر». كل خط من هذه الخطوط، بحسب ما قاله «شاهين» يكشف عن سر داخل الإنسان، كما تعطى دلالات وعلامات ثانوية تدل على مستقبل الإنسان وطبائعه وصفاته، فكانت معرفة هذه التفاصيل مهمة، وإن بقيت تفاصيل أخرى ولكنها «هامشية» عن هذا العالم، وكانت هذه المعلومات بمثابة نقطة البداية التى ننطلق منها، لنحلل شخصيات بعض الأفراد. تفاصيل المغامرة رغم عدم معرفتى الكاملة بهذا العالم، لكشف الطالع ومعرفة مصير كل فرد، إلا أنى اعتمدت على «شوية كلام معسول» كنوع من المسكنات لآلام الناس، فمثلًا الشخص الذى أشعر من حديثه أنه بحاجة إلى عمل و«نفسه فى رزق يأتى إليه»، أطمئنه بتحسين أحواله المعيشية فى أقرب وقت، فيسعد كثيرًا وكأنه «تم قبوله فى وظيفة جديدة»، فرجل كان بحاجة لسماع كلام يشعره بأمل فى حياة وأنه سيحصل على ما يريده فى وقرب وقت، رغم أن قلبه يقول له هذا الكلام ولكنه يحتاج إلى سماعه من شخص آخر يدعى أنه يعلم الغيب ليطمئنه. العرافة كانت هذه الشخصية التى تعطى كبسولة وهم للأفراد وتطمئنهم بتحقيق كافة آمالهم فى أقرب وقت، فالمرأة التى تريد أن تنجب، كان تفرحها بأن: «الله سيزرقها بولى العهد»، والشاب الذى يبحث عن عروس: «كان يبتسم ويسعد عندما يعلم بأنه سيجدها».. كل ما يبحث عنه الناس ويتمنون تحقيقه.. كانت كلمات العرافة التى لا تعلم شيئاً عن هذا العالم.. سوى بعض المعلومات «الهامشية» المتعلقة بخطوط اليد ودلالة كل منها، بمثابة «مرهم لدوا جروح الناس». اختيار المكان المناسب الذى سننطلق منه، وستجلس فيه «العرافة» كان صعباً للغاية، ففكرنا فى الذهاب لمنطقة الحسين باعتبارها منطقة حيوية ويأتى إليها مئات الأشخاص يومياً، ولكن سرعان ما تراجعنا عن تنفيذ المغامرة فى هذه المنطقة بسبب التواجد الأمنى الكثيف أمام المقام المبارك، ومن الممكن أن يتم القبض علينا بتهمة «نشر الخرافات والدجل»، ففضلنا الذهاب إلى مكان آخر، يقل فيه التواجد الأمنى وفى الوقت نفسه يكون بمثابة «قبلة» للعديد من الأشخاص، فوقع اختيارنا على مقام السيدة نفيسة. المقام المبارك كان لا بد أن تبدو هيئة العرافة، شخصية عادية مثلها مثل معظم الفقراء الذين «يبحثون عن رزقهم بأى حرفة أو مهنة يجيدونها»، لذلك قمت بتجهيز ملابس متهالكة وقديمة لارتدائها أثناء قيامى بدور العرافة وهى عباءة «بنى» بها العديد من البقع، وشبشب «بلاستيك قديم»، وحتى لا يتعرض لى المتسولون داخل الميدان أقنعتهم «أنى لا أشحذ» وأننى جئت من أجل قراءة الكف التى تعلمتها من جدتى المريضة لأنفق على أسرتى، فاقتنعوا إلى حد ما بالقصة وسمحوا لى بالتجول بالميدان للبحث عن الرزق. «اقرا كفك يا أستاذ.. اقرا كفك يا بيه.. اقرا كفك يا هانم».. بهذه الكلمات تجولت فى الميدان، بحثًا عن شخص يريد «معرفة طالعه»، فكان الرد أحياناً: «الله يسهلك.. هو إحنا لاقيين ناكل علشان نشوف بختنا».. بينما رحب آخرون بالفكرة: «أسرع بإعطائى يده لقراءة كفه». فى الميدان، تجد مختلف الفئات، فعلى جهة يجلس عشرات الأشخاص يبدو على ملامح بعضهم: «الشقاء والكآبة» كأنهم ينتظرون من أحد الزائرين للمقام عرض فرصة عمل عليهم ليعودوا «بالرزق لأسرهم»، وعلى جانب آخر مجموعة من السيدات المتسولات يدخلن واحدة تلو الأخرى إلى ركن السيدات بالمسجد، ولم أكن أعرف لماذا، لذلك قمت بالذهاب وراءهن لأعرف ما يحدث بالداخل، فشاهدت قيامهن بالسب والتشابك مع بعضهن البعض بالأيدى والألفاظ للتسابق على من تأخذ الطعام قبل الأخرى. وفى زاوية أخرى، تجد مجموعة من الباعة الجائلين، ويجلس بالقرب أشخاص عاديون، كأنهم يريدون الجلوس لبعض دقائق أمام المقام للراحة. فى الحقيقة، رغم انزعاجى من رؤية هذا الكم من المتسولين والفقراء الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن يأتى شخص ميسور الحال لتوزيع وجبات أو أموال عليهم، إلا أننى لاحظت حالة اكتئاب جماعى على غالبية وجوه الناس التى تسير بالقرب من المقام، فالناس تسير هائمة شاردة بلا هدف ولا إرادة. الخمسة جنيهات شعرت للحظة أن جميع الناس تتمنى أن تنادى العرافة، ليسمعوا منها بعض الكلمات التى تطمئنهم على المستقبل، وما ستؤول إليه أحوالهم المعيشية، ولكن كانت الأموال التى تأخذها العرافة ليست دافعاً للبعض. فبعض الأشخاص فضلوا ألا يدفعوا خمسة جنيهات لقراءة الكف، مفضلين شراء رغيف عيش لإطعام أطفالهم، بينما لم يعترض آخرون، وأسرعوا بالنداء على العرافة لكى تتفوه ببعض الكلمات عن المستقبل تريح بها قلوبهم. جاءتنى فتاة فى الثلاثين من عمرها تود معرفة سبب عدم زواجها، فكلما أتى شخص لخطبتها يذهب ولا يعود، حاولت أقنعها: «نصيبها سيأتى إليها قريباً» ولا تتعجل الزواج.. ولكنها أصرت: إنها واقعة تحت تأثير سحر من قبل زوجة عمها، وعرضت علىّ أموالاً كثيرة لأجل فك السحر، ولكننى رفضت وشرحت لها أننى لا أجيد «فك السحر والأعمال». فقالت: «خلاص هاصدقك.. وهاستنى نصيبى اللى جاى قريب ده.. وليكى الحلاوة لو طلع العريس شبه عمرو دياب». وبعض الفتيات يأتين للاستفسار عن أشخاص يودون خطبتهن، وهنا أنصح الفتاة إذا كان الشخص جيدًا أو سيئ السلوك، حيث أحاول معرفة بعض التفاصيل عن هذا الشخص من الفتاة نفسها، وعلى حسب حديثها أحاول إقناعها بتركه أو التمسك به. المتزوجات مشاكلهن كثيرة وأكثر ما يشغل بال المرأة المتزوجة هو زوجها، وإذا ما كانت له علاقة مع امرأة أخرى أو يود الزواج من أخرى. لذلك حرصت بعض السيدات على قراءة الكف لأزواجهن ونيته فى الزواج من أخرى أم لا. فكنت أحاول عدم خلق أزمة بين الزوجين.. وأكدت لهن أن الزوج لن يتزوج عليهن أخرى. بعض النساء مقتنعات تماماً بوجود «قرينة» تمنعهن من الإنجاب، فهناك سيدة حكت لى: إنها كلما حملت ووصلت إلى شهرها السادس يسقط حملها ولا يثبت، فذهبت إلى «دجال شاطر» وقال لها: إن لديها «قرينة» تمنعها من تثبيت حملها.. فسألتنى: متى ستنجب خاصة أنها تخشى على حياتها الزوجية.. فطمأنتها بأنها ستنجب قريباً، ورغم أنى لا أعلم فى الحقيقة متى ستنجب.. ولكننى حاولت أن أطمئنها وأنهى خوفها. لم يخل المشهد أيضاً من بعض الرجال العجائز الذين رغبوا فى قراءة كفهم لمعرفة متى يتم شفاؤهم.. وتتحسن صحتهم، كما أرادوا الاطمئنان على رزقهم وأحوالهم المعيشية، فكنت «أوهم» بعضهم بعبارات معسولة مثل: «إن شاء الله سيتم فرج كربك قريبًا وستحل جميع مشاكلك».. فكان يبتسم ويصدقنى كما دفع لى 20 جنيهاً.. ولكن لم أفسر «تصديق الناس كل ما أقوله بسهولة».. وكأنهم يريدون سماع كلمات معسولة تصبرهم على معاناتهم. أكثر ما يؤرق «عمال اليومية»، هو رزقهم ومتى سيأتى إليهم «شغل كويس».. لينفقوا على أسرهم، فعندما كنت أمسك كف «نجار مسلح» ويدعى «زكى»، بادرنى بسؤال: «طمنينى هيجى لى شغل إمتى.. وفى رزق قريب؟»، فأكدت له: «إن الرزق جاى له فى الطريق.. وعليه أن يتحمل قليلاً.. فمر الكثير ولم يبق سوى القليل» فاقتنع بكلامى.. ودعا لله أن يفرج كربه.. ودفع لى جنيهاً واحداً. رغم أن العرافة كانت تخدع الناس بكلام معسول، وتطمئنهم بعبارات بسيطة عن مستقبلهم، إلا أنها ذاع صيتها فى الميدان، فاقترب منى رجل عجوز.. وقال لى: «شكلك بتعرفى فى الكف كويس.. هاخدك لناس كبار أوى: يعنى تقدرى تقولى ميسورى الحال.. هتشوفى ليهم الكف.. وهتاخدى فلوس كتير». فكرت فى عرض العجوز، ولكننى لم أستطع البقاء طويلًا فى الميدان، خاصة أنه بدأ مجموعة من الرجال بمضايقتى: فشخص عرض علىّ الزواج منه عرفياً، وأصر أنه يذهب لأى محام ليعقد قرانه علىّ، فرفضت وقلت له إنى مخطوبة لمبيض محارة.. وبحب خطيبى، ولكنه لم يقتنع ورفض ترك يدى.. لم أفلت من يده إلا بإقناعه أنى سأذهب للحمام... وأعود للحديث معه، فوافق، وأسرعت بالدخول للحمام وغيرت ملابسى القديمة المتهالكة.. بأخرى «كاجوال» ووضعت بعض المكياج.. وخرجت، فلم يستطع التعرف علىّ بعدما تغيرت هيئتى بالكامل.. ورحلت من المكان. سوسن فايد: الإحباط والاضطرابات وراء انتشار الخرافات قالت الدكتورة سوسن فايد، أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية : «إن الدجل ينتشر فى فترات الاضطراب، فالإحباط والاكتئاب يجعلان الأفراد يميلون إلى تصديق الخرافات، خاصة أنه يتم فى الوقت الحالى الترويج للمشعوذين فى وسائل الإعلام، وظهور بعضهم على الفضائيات كأنهم أبطال ونجوم. وأضافت الدكتور هالة أن من يلجأون إلى المشعوذين عادة لا يصرحون بهذا الأمر، مشيرةً إلى أن الحل فى التوعية الثقافية والدينية، كما يجب فضح هؤلاء المشعوذين وتأكيد عدم مصداقيتهم، مشددة على أن الإيمان بقدرة هؤلاء على العلاج لا تقتصر على الجهلاء والبسطاء، بل طالت المثقفين والمشاهير. وأوضحت أن السحر كان موجودًا عند قدماء المصريين، والجن مذكور فى القرآن، ولكن الناس تفكر بطريقة خاطئة، فأصبح هناك اعتقاد راسخ أن حل مشاكل البنت التى لم تتزوج، والشخص المصاب بمرض عضال، وذلك الذى يقل رزقه، عند الدجالين. وأضافت أن سيكولوجية المرأة أكثر هيستيرية من الرجل، لذلك تلجأ إلى السحر لأن الممنوع مرغوب. هالة حماد: فاقدو الثقة يهربون من العلاج النفسى إلى الدجل والشعوذة أكدت د. هالة حماد استشارى الطب النفسى أن الشخص الذى يلجأ إلى الدجال أو العراف.. هو قليل الحكمة والعلم، وفاقد الثقة فى نفسه لذلك يتوقع فى الآخرين حل مشاكله. وأشارت إلى أنه من ضمن أسباب تفكير بعض الأشخاص فى اللجوء للدجالين التصور الخاطئ بأنهم يملكون الحل السحرى لكافة المشاكل، خاصة أن العلاج النفسى يحتاج إلى وقت طويل، والطبيب النفسى لا يوعد المريض بمعجزات للتخلص من معاناته.. بل يتعامل معه بواقعية وهذا بعكس الدجال. وأوضحت أن تكلفة العلاج النفسى باهظة، لذلك يمتنع بعض المرضى من اللجوء للطبيب المتخصص، ويفضلون اللجوء للعراف لكى يسكن آلامهم بكلام وهمى.. ولكن مرضهم الحقيقى لا يشفى. وطالبت «حماد» الأطباء النفسيين بتخصيص يوم فى الأسبوع أو حتى ساعة فى أيام الكشف العادية للكشف مجاناً على المرضى الفقراء، حتى لا يكونوا ضحية النصابين. وأوضحت أنه لا سبيل لحل هذه المشكلة وابتعاد الناس عن الخرافات إلا بالتوعية بأهمية الطب النفسى، ولجوء المريض للطبيب المختص للمعالجة لا يعنى أنه مجنون.. بل هو مريض نفسياً.. والمريض النفسى مثله مثل أى مرض آخر يصيب جسم الإنسان.