تابعت وسائل الإعلام العالمى باهتمام بالغ جولة العاهل السعودى الملك سلمان فى 6 دول آسيوية هى ماليزيا، إندونيسيا، جزر المالديف، بروناى، الصين، واليابان. تساءل الكثيرون عن المغزى من هذه الجولة الكبيرة للعاهل السعودى فى آسيا وتوقيتها، خاصة أنها تتضمن دولا لم يزرها ملك سعودى منذ نصف قرن تقريبا كإندونيسيا واليابان، ورغم عزوف الملك عن السفر فى معظم الأوقات. تأتى الجولة اللافتة تزامناً مع تصاعد الاضطرابات التى قد تشكّل مستقبل المنطقة العربية والشرق الأوسط. كما تأتى فى وقت تسعى فيه المملكة إلى تنويع موارد اقتصادها، الذى يعتمد إلى حد كبير على النفط. يبدو العاهل السعودى عازماً على توسيع نفوذ بلاده وتوطيد علاقاتها بالعالم الإسلامى ومحيطها الآسيوى، بعدما تمكّن من ترتيب علاقات متميزة عربياً وخليجياً، حتى باتت المملكة عاصمة للقرار العربى فى عدد من القضايا الاستراتيجية، فضلاً عن كونها تقود تحالفاً إسلامياً لمواجهة الإرهاب فى المنطقة. يجمع كثيرا من المراقبين على أن القيادة السعودية تعمل على تنويع شراكتها الاستراتيجية مع دول شرق آسيا إلى مستوى يعزز مكانة المملكة كبوابة وجسر بين قارتى آسيا وأفريقيا، إلى جانب تقريب وجهات النظر فى العديد من القضايا السياسية. وحسب مصادر إخبارية، هناك ترتيبات لتعاون عسكرى يشمل السعودية وماليزيا وإندونيسيا، فى إطار التحالف الإسلامى العسكرى الذى تقوده السعودية، والذى أعلن عنه فى ديسمبر 2015. لكن الثابت أن قيادة المملكة تسعى لتحقيق أهداف متعددة من خلال هذه الجولة، اقتصاديا وسياسيا ودينيا. زيارة العاهل السعودى لليابان ستكون الأولى لعاهل سعودى إلى هذا البلد منذ 46 عاماً، وإحدى المحطات الأبرز فى هذه الجولة؛ حيث تسعى الرياض إلى جذب استثمارات اليابان صاحبة الاقتصاد الثالث عالمياً، خصوصاً فى قطاعات الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعى، والترفيه. وسبق أن زار ولى ولى العهد السعودى، محمد بن سلمان، اليابان، التى أبدت اهتماماً كبيراً بالشراكة مع المملكة، بعد لقاء ولى ولى العهد برئيس الوزراء اليابانى، شينزو آبى، فى طوكيو، العام الماضى، وبحثا برامج التعاون فى إطار الإصلاح الاقتصادى، الذى تمثّل رؤية المملكة 2030 ذروة سنامه. ومن المتوقع أن يبحث الملك سلمان التفاصيل النهائية لإبرام الاتفاقات السعودية اليابانية رسمياً أثناء زيارته. وثمة توقّعات كثيرة بأن يكون للزيارة أثر كبير فى الاقتصاد السعودى، فقد بدا جلياً أن الرياض اختارت طوكيو لتكون شريكاً أساسياً فى خطة المستقبل السعودية التى ترتكز على التقنية والتكنولوجيا، والاستثمار فى الشركات ذات الاختصاص. كما شهدت زيارة العاهل السعودى إلى الصين توقيع اتفاقيات فى 5 مجالات؛ (سياسية، واقتصادية، وتعليمية، وإنسانية، وثقافية) تتوافق مع رؤية 2030، ومبادرة الحزام والطريق الواحد التى تم الترويج لها من قبل الوفد الصينى فى مؤتمر الطاقة العالمى، الذى عقد فى أبو ظبى فى يناير الماضى. وفى اندونيسيا تم توقيع اتفاق يعزز الاتفاق الموجود والذى تبلغ قيمته ستة مليارات دولار بين شركتى أرامكو السعودية وشركة بيرتامينا الاندونيسية، لتوسيع مصفاة نفط أندونيسية. هذا بالإضافة إلى توقيع 11 مذكرة تفاهم للتعاون بين البلدين واتفاقيات حول التجارة والطيران وتعزيز التعاون فى مجال العلوم والصحة ومكافحة الجريمة. أيضا، ضمت الزيارة الملكية لآسيا 10 وزراء، على رأسهم خالد الفالح، وزير الطاقة، ومسئولون من أرامكو، الذين سيركزون على استقطاب استثمارات آسيوية فى 2018، عندما تطرح أكبر عملية طرح اكتتاب عام شهدها العالم. كما أن بنوكاً وشركات آسيوية ستؤدى دوراً فى خطة المملكة لتطوير الصناعات غير النفطية، وتوسيع مساحة الاستثمارات فى مجالات خارج إطار النفط، وضمن الخطة الرامية إلى تقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيس لإيرادات الدولة. لكن محللين يرون أن الهدف الاقتصادى من الجولة يتوارى خلف الهدف الأساسى منها، وهو أن الرياض تسعى لتنويع بدائل سياستها الخارجية. يقول جيرالد فايرستاين، مدير مركز شؤون الخليج فى معهد الشرق الأوسط، فى مقال بمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، إن الهدف من هذه الرحلة هو سَعْى الرياض إلى إيجاد بدائل للسياسة الخارجية، إضافة إلى البعد الاقتصادى للسعودية حول رؤية 2030، فى مواجهة المزاج المتقلب للرئيس الأميركى دونالد ترامب. ويرى فايرستاين، أن الدول الآسيوية التى يقوم بزيارتها العاهل السعودى ستمثل داعماً للسياسة السعودية حيال التوغل الإيرانى، خاصة أن أغلبها ذات أغلبية سنية. ويلمح فايرستاين إلى أن اختيار الملك لدول إسلامية سنية (بروناى وإندونيسيا وماليزيا وجزر المالديف) يمثل أمرا مهما لجهود السعودية الرامية إلى بناء جبهة سنية موحدة، تتصدى لطموحات إيران فى سيادة العالم الإسلامى. لكن رسالة الجولة الأهم هى أن المملكة العربية السعودية ستحافظ على مرونتها عندما يتعلق الأمر بتعاملها مع الولاياتالمتحدة. لقد كان رد فعل الرياض لانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة إيجابياً، فكان سلمان من أوائل القادة الذين بادروا بتهنئة الرئيس المنتخب، فى نوفمبر الماضى. أما وزير خارجيته، عادل الجبير، فعمل بقوة لإقامة علاقات مع الإدارة الجديدة، وأشاد بها فى تصريحات للصحافة وفى المحافل العامة. ومن جانبها، لم تخفِ إدارة ترامب رغبتها فى إعادة بناء العلاقات مع السعودية، التى ذَبُلَت خلال عهد باراك أوباما. كجزء من جهودها لتعزيز استراتيجية احتواء إيران، زادت إدارة ترامب من دعمها لقوات التحالف، التى تقودها السعودية، والتى تقترب الآن من السنة الثالثة من التدخل العسكرى فى اليمن. وأعلنت إدارة ترامب عن خطط لرفع بعض القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة إلى السعودية، التى كان قد فرضها أوباما، ولا سيما الذخائر دقيقة التوجيه (ولكن ليس، على ما يبدو، على الذخائر العنقودية). كما تردد أن وزير الدفاع جيمس ماتيس ألمح إلى القيام بجهود أكثر صرامة لاعتراض إمدادات الأسلحة الإيرانية البحرية إلى الحوثيين فى اليمن. وفى الوقت نفسه، لم تتضمن قائمة الدول ذات الأغلبية المسلمة «الخطرة»، التى تخضع لقيود جديدة على تأشيرات دخول الولاياتالمتحدة، السعودية. ومع ذلك، يخشى السعوديون أن يتحول دعم ترامب إلى نقمة. فالسعوديون تزعجهم تصريحات ترامب المزاجية التى يؤكد فيها أن الرياض ستكون على استعداد للقيام بدور الممول الدائم للولايات المتحدة، ولتحمل تكلفة جميع المبادرات الإقليمية التى تتبناها إدارة ترامب، من مناطق آمنة فى سوريا إلى الحشد العسكرى فى مواجهة إيران. كما أنهم يخشون من أن يتبنى مواقف تتعارض بخشونة مع مواقف المملكة المبدئية فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب ومواجهة إيران وحل القضية الفلسطينية. فالسعودية فى مواجهة التحديات الاقتصادية تصارع لإيجاد فرص عمل للشباب وتنويع الاقتصاد الذى يتركز بشكل أساسى فى قطاع الطاقة. ومن المفارقات أن من خلال الضغط لتخفيض أسعار النفط العالمية، تهدد سياسات ترامب الرامية إلى استقلال الولاياتالمتحدة فى مجال الطاقة بتفاقم التحديات الاقتصادية فى السعودية، وتقويض قدرة السعوديين على توفير هذا النوع من التمويل الذى يريده ترامب. ستحرص السعودية، بلا شك، على إيجاد سبل للتعاون مع إدارة ترامب. إذا نجحت الإدارة فى جهودها لإنشاء مناطق آمنة للاجئين السوريين، فإن السعودية غالباً ستوافق على المشاركة فى التحالف الدولى لتمويل ذلك، لكنها لن تكون الممول الوحيد (ولن يكون مجلس التعاون الخليجى الممول الوحيد). وبالمثل، فإن المملكة العربية السعودية، التى لديها ثالث أكبر ميزانية دفاع فى العالم، وتستهلك ما يقرب من 14% من ناتجها المحلى الإجمالى (مقارنة مع 3.3% فى الولاياتالمتحدة) فى النفقات العسكرية، تريد دعم التعزيزات العسكرية فى المنطقة على غرار اقتراح ماتيس، لكن السعوديين ليسوا مستعدين لدفع الفاتورة وحدهم. ونظراً للمأزق الذى وجدت فيه الرياض نفسها مع إدارة ترامب، اضطر الملك سلمان للسفر إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فالرياض حريصة على فتح صفحة جديدة فى علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، واستئناف نوع من التعاون الوثيق الذى تميزت به العلاقات المتبادلة لمعظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن يتعيَّن عليها أخذ الحيطةِ من عدائية ترامب المُحتَمَلة حين يصبح الأمر حتمياً.