"تفهنا الأشراف" اسم ربما تتعجب لسماعه وتتساءل عن معناه، لكن العبرة ليست فى الاسم بل فى قيمته، تفهنا الأشراف هي قرية مصرية تابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، عدد سكانها 6 آلاف نسمة ومساحتها 6 آلاف فدان، كانت قبل 30عاما تعاني من الفقر المدقع حتى اشتهرت بتصدير عمال التراحيل للمناطق المحيطة. لكن دوام الحال من المحال ومن لا يتقدم يتأخر، ووفقا للمقولة السابقة كان أمام أهل القرية أحد الخيارين، إما أن يستسلموا ويصبح حالهم أسوأ مما كانوا عليه أو أن يتمردوا ويقوموا بتغيير واقعهم المرير، وقد اختار أهالي القرية الخيار الثاني الذي جعل من قريتهم نموذجا لتجربة تنموية فريدة غيرت معالمها ووجها للنقيض تماما. وفي مبادرة للتعرف عن قرب على هذه التجربة الفريدة، قمنا بزيارة للقرية للتعرف على تجربتها في مجال التنمية، حيث قام أ.صلاح منصور عضو مجلس إدارة المركز الإسلامي والجمعية المشرفة على المشروعات ب "تفهنا الأشرف"، بعرض مفصل لكيفية تطور القرية وتغير معالمها بهذا الشكل. من الحضانة إلى الجامعة من خلال العرض الذي قام به الشيخ "صلاح منصور" أكد أنه خلال العقود الثلاثة الماضية وتحديدا منذ عام 1982م قام أهالي تفهنا الأشراف بالتبرع من حصيلة أرباح المشروعات الاستثمارية التي أقيمت للإنفاق على تنمية القرية، وتبرعات الأهالي التي لم تنحصر في الأموال ولكن شملت أيضا الماشية والأغنام والمصوغات والمجهود والمشاركة في أعمال البناء، ومن ثم فإن مواردهم الذاتية الخاصة مكنتهم من تطوير نموذج تنموي خاص، اتخذ من التعليم الديني مدخلا يلجون منه إلى ساحة متسعة للتنمية شملت كل جوانب الحياة في القرية، وقد اتخذ ذلك المدخل شكل بناء منظومة تعليمية متكاملة من الحضانة إلى الجامعة، تضم حضانة بها 350 طفلا، ومعهدا أزهريا ابتدائيا مكونًا من 53 فصلا، وخمسة معاهد أزهرية بنين وبنات (معهد أزهري إعدادي للبنين وآخر إعدادي للبنات يضمان معا أكثر من 800 طالب وطالبة وتلاهما معهد أزهري ثانوي للطلاب وآخر ثانوي للطالبات وخامس نموذجي للمتفوقين في التعليم الأزهري على مستوى الجمهورية). لم تقف آمال أهالي تفهنا الأشراف عند هذا الحد بل زادت تطلعاتهم إلى أبعد من ذلك فتقدموا بطلب للشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق للحصول على موافقته لإنشاء كلية للشريعة والقانون تكلفت 5 ملايين جنيه تقريبا وتم إنجازها في 13 شهرا ونصفا، وبدأت الدراسة بها في شهر صفر عام 1413ه/أغسطس 1992م، ثم شرعوا في إنشاء كلية تجارة للبنات قبل الانتهاء من مبنى الشريعة تم إنجازها في تسعة أشهر، ثم كلية للتربية للبنين ألحق بها حاليا إستاد مجهز على أعلى مستوى للشباب ليكون بداية لإنشاء كلية التربية الرياضية. بعد ذلك أنشأوا كلية الدراسات الإنسانية للبنات، كما يوجد بالقرية مكتبة تشتمل على أمهات الكتب لخدمة أبناء الأزهر والباحثين، إضافة إلى مدينة جامعية للطلاب تسع ألف طالب، وأخرى للطالبات تسع 600 طالبة. كما يوجد بالقرية خمسة مساجد وعدة دور لتحفيظ القرآن وإعطاء الدروس الدينية، إضافة لفصول لمحو الأمية وتعليم الكبار، كما استطاع الأهالي تحويل مدخل القرية إلى حديقة جميلة في مكان كان يوما من الأيام موطنا للتخلص من قاذورات القرية. فى بحر العطاء لم يغفل أهالي تفهنا الأشراف النواحي الصحية والبيئية لقريتهم؛ فبالتعاون مع وزارة الصحة تم بناء مستشفى التكامل الصحي لتوفير الرعاية الصحية للطلبة الوافدين وأهالي القرية. أيضا يوجد بالقرية العيادة الشاملة للتأمين الصحي لتوفير الرعاية الصحية للعاملين في الحكومة من أهالي القرية والعاملين في المعهد والجامعة. وبالتعاون مع "مشروع شروق" (وهو مشروع حكومي لتنمية القرى، كان يشترط مساهمة القرى بنسبة 20% من ميزانية التنمية، لكن أهالي تفهنا الأشراف ساهموا بنسبة 50%) وفي إطار المشروع أقيم خزان للمياه يكفي كل من يسكن بالقرية من أهلها ومن الطلاب الدارسين، وتم توفير المياه عن طريق مد شبكات جديدة، كما تم إنشاء محطة للصرف الصحي لتحمي البيوت من أضرار الصرف الصحي، كما تم إنشاء جمعية لتنمية المجتمع المحلي وسنترال ومركز شباب ومكتب بريد. إضافة إلى ذلك قام الأهالي بإنشاء مركز للتدريب على الكمبيوتر، ومركز لتدريب الفتيات على الخياطة والتريكو والصناعات الغذائية وتنمية الحرف اليدوية من أجل زيادة دخل الأسرة، ودار للمناسبات الدينية ملحق بها قاعة اجتماعات لأهالي القرية ليناقشوا فيها المشاريع الجديدة وكيفية تطوير قريتهم، ولجنة للمصالحات لفض المنازعات، كما أقاموا محطة للسكك الحديدية لخدمة طلاب الجامعة، ووفروا سيارات خاصة تتبع المركز الإسلامي تقوم بجلب أطفال الحضانة من القرى المجاورة مجانًا، واشتراكات مجانية لطلاب المعاهد الأزهرية بالسكة الحديد بالإضافة إلى توزيع الزي الأزهري مجانا على طلاب وطالبات المعاهد الأزهرية. كما أولى أهل القرية اهتماما بالجوانب البيئية، فيوجد بالقرية جهاز للنظافة عبارة عن جرار ومقطورة لرفع القمامة ومقطورة للرش، ومشروع لتشجير القرية، وزراعة ألف نخلة من نخيل التمر، وقد أسس أهالي القرية جمعية خيرية أطلقوا عليها "جمعية الصلاح الخيرية" للقيام بكل تلك المشروعات إضافة إلى تقديم خدماتها لأهالي القرى المجاورة أو غيرها من القرى والجمعيات في أنحاء الجمهورية والتي تطلب المساعدة، وتتمثل خدماتها في: - تشغيل الخريجين. - تقديم الخدمات لغير القادرين من الفقراء والأيتام. - تنمية البيئة والمحافظة عليها. - ورشة للنجارة لصناعة المقاعد للمعاهد الأزهرية ومراكز تحفيظ القرآن. - صناعة الأثاث لمساعدة الفتيات الفقيرات. - توزيع أكشاك على غير القادرين على الكسب. - تلقي التبرعات من الأشياء المستعملة التي تعيد تجديدها ثم توزعها على المحتاجين. - إعداد الوجبات الخاصة بالطلاب المغتربين. في ظل هذا الزخم من المشروعات الخيرية والتنموية كان لابد من وجود وحدة إنتاجية لتنفق على المشروعات لذلك تم إنشاء شركة الصلاح للأعلاف التي تنفق كل أرباحها على هذه المشروعات، كما تم إنشاء المجزر الآلي عام 2003 برأسمال 2.5 مليون جنيه ويعمل به 200 عامل، وشركة الهبة عام 2000 برأسمال قدره 25 مليون جنيه ويعمل به 300 عامل. حدوتة مصرية كل هذا العطاء له قصة يرويها أهل تفهنا الأشراف والتي كان يسكنها أقل من 5 آلاف نسمة حتى عام 1984م، عندما اجتمع عدد من شباب القرية المتعلم لعلاج مشكلة الفقر بالقرية فقاموا بحصر أصحاب الأملاك من الأغنياء، وكل من يستطيع أن يؤدي فريضة الزكاة، واجتمعوا بأهل القرية وقرروا إنشاء مركز إسلامي يتولى تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من مشروعات خيرية وذلك من خلال لجان عمل للتعليم والزراعة والشباب والصحة والمصالحات ولجنة للزكاة، وبدأت الأخيرة بحصر أهالي القرية الفقراء بحيث يتم جمع الزكاة من أهالي القرية بحسب نشاطهم، فالمزارع يعطي من محصوله والتاجر يعطي مما لديه من سلع حتى الأطباء بالقرية كانوا يتابعون مرضى القرية الفقراء كزكاة عن عملهم. وقامت اللجنة بتوزيع "40 نعجة عشر" على الأرامل، وفي السنة التالية قامت بتوزيع 20 عجل جاموس للرجال الفقراء ومع كل عجل حبل ووتد ونصف إردب ذرة، ثم خصصوا ستة قراريط لكل فرد من أصحاب العجول ليزرعوها برسيما من الأرض التي اشتروها لبناء المنشآت التعليمية والتي كانت خالية، بعد ذلك قامت اللجنة بتقديم الآلات الخاصة بالحرف سواء للنجارة أو الميكانيكا أو الحدادة للشباب العاطل، ولأصحاب الحالات المرضية قاموا بعمل أكشاك أو تقديم عربات مجهزة ببضاعتها والحصول على شهادة صحية لهم، وتتم المتابعة عن بعد لهؤلاء بتوصية تجار الجملة بتسهيل إمدادهم بالسلع وضمانهم عند التعثر دون أن يشعروا بذلك كي يجيدوا تجارتهم، ثم قاموا بعقد دورات للفتيات –غير المتعلمات- على ماكينات الخياطة، وأيضا لمحو الأمية وبعد الدورة تأخذ الفتاة ماكينة خياطة وبعض المستلزمات لمزاولة العمل. وقد قام هذا الشباب المبادر من أهل القرية وصاحب الفضل في انطلاقة شرارة هذا العمل الضخم، وفي الحفاظ على جذوة العمل متقدة طوال ما يقرب من 30 عاما، و قام هذا الشباب بإنشاء مزرعة باشتراك تسعة منهم، والذين اتفقوا على إنشاء مزرعة للدواجن تكلفت ألفي جنيه، وخلال كتابة عقد الشركة قرروا تخصيص نسبة 10% من ربح مشروعهم الخاص لإنفاقه في وجوه الخير، ثم تزايدت هذه النسبة حتى وصلت 100% في إجمالي عشرة مزارع، فبمرور السنين زاد عدد المزارع وتم إنشاء مصنع للأعلاف وآخر للمركزات ومصنع لعلف الماشية، مع الاتجار في الحاصلات الزراعية وتصدير الموالح والبطاطس والبصل لعدة بلدان خارج مصر حيث أصبح النشاط التجاري من الأنشطة الرئيسية في مجال عملهم، كما تمت إقامة مزارع أخرى في التل الكبير حتى أصبح حجم الاستثمارات حاليا أكثر من 35 مليون جنيه. تصدير التنمية ورغبة من أهالي القرية والقائمين عليها في نشر الوعي والفكر التنموي في القرى الأخرى، قاموا بإنشاء المعاهد الدينية في أكثر من 800 قرية مصرية من الإسكندرية وحتى سوهاج، ويتم ذلك عن طريق طلب يتقدم به ممثل عن القرية الراغبة في إنشاء المعهد للمهندس صلاح عطية رئيس مجلس إدارة الجمعية والمركز، ثم بعدها تحديد موعد لزيارة القرية، للإعلان عن المشروع وتحفيز الموارد المحلية لأهل تلك القرية التي لا يتركونها حتى يتم تجميع كامل المبلغ اللازم لبناء المعهد، وحينئذ تقوم "تفهنا الأشراف" بإهداء الأثاث الخاص بالمعهد (والمصنع في ورش تفهنا الأشراف) ومصروفات طلبة السنة الأولى والزي والمصاحف للقرية، وبنفس الطريقة يقومون ببناء المساجد في القرى الأخرى، ويساعدون الحالات الاجتماعية عن طريق إنشاء مشروعات يعمل بها العاطلون والفتيات والأرامل. حكمة التجربة كم من قرية تضافر أهلها على بناء مسجد أو معهد ديني، لكن ما يختلف في هذه التجربة هو أن أهل "تفهنا الأشراف" خاصة هؤلاء الرواد (صلاح عطية رئيس مجلس إدارة المركز الإسلامي بتفهنا الأشراف والأب الروحي للتجربة، وطارق القرموطي عضو لجنة الزكاة والخدمات الاجتماعية بالمركز الإسلامي، وأحمد شاكر مدير المركز الإسلامي، وصلاح السعيد المسئول عن مصنع الدواجن، وصلاح منصور) لم يقفوا عند حدود مشروع واحد، بل إنهم استغلوا الباحة الواسعة للتنمية الشاملة، فكان التعليم الديني مجرد بوابة. كما أنهم لم يعتمدوا على أية معونات أجنبية كتلك التي أدمنتها النخب من أهل "البندر"، ولا على معونات من خارج القرية، اللهم إلا بعض المشاريع الحكومية المقررة لهم ولغيرهم من القرى، وهو ما يعطي درسا بليغا في التنمية الذاتية. وحينما اكتفوا من التنمية الذاتية المحلية فاضوا على القرى الأخرى، لكنهم حينما فعلوا ذلك فعلوه بمنطق تعليم الصيد لا إطعام السمك.