هبت العاصفة السوداء حول مجلسي الشعب والوزراء على مدار أسبوعين. وكما اندلعت فجأة اختفت كالرذاذ المتطاير بين السحاب. ضربة رصاصة وعصا وحجر قتلت العشرات، بينما ظل الفاعل مجهولا. من راقب المشهد المأسوي أمام مجلسي الوزراء والشعب خلال الفترة الماضية، يحسب أن الدولة دخلت مرحلة حرب الشوارع، فالحريق يبدأ في أروقة مجلس الشعب، ويتسع حرقه إلى مبنى وزارة النقل، ويأتي على مقر المجمع العلمي، أمام أعين الجميع. فالساحة التي غطتها سحب سوداء، شهدت سحلا للنساء، وضربا للشباب بلا رحمة، واعتداء على قوات الجيش من أيادي ظلت مجهولة الهوية. ومن يراجع الحدث بدقة، يجد أن دعوة الشباب الثائر في الميدان للانسحاب من مكان المعركة، كشفت عن محركي الكارثة بسهولة. فها هي التحقيقات تبين أن العشرات من المقبوض عليهم بلطجيةمن الذين يقيمون بالدرب الأحمر والسيدة زينب، من أرباب السوابق. والاتهامات الأخرىتتجه إلى بلطجية سكنوا ميدان التحرير، وصبية من المشردين والهاربين من الإصلاحيات. رغم عدم وجود اتهامات خطيرة توجه للشباب الثائر بحق في التحرير، نجد أن الضرب كان مصوبا نحو قلوبهم الطاهرة، وأدمغتهم الثائرة، بينما البلطجية لم ينلهم أي سوء،إلا المقبوض عليهم من الذين فشلوا في الهروب من الميدان كالفئران، مثلما يفعلون أو كما يؤمرون من الأيدي المحركة لهم. لقد هرب من مسرح الحدث، كل الذين ألقوا الحجارة على المتظاهرين من فوق أسطح مجلسي الشعب والوزراء، فلم يستدعهم أحد أو يطلب سؤالهم في قضية هم طرف أصيل بها. ومن يعرف تركيبة العاملين في مجلس الشعب على وجه الدقة سيعلم أن استدعاء الذين رموا الناس بالطوب من أعلاه، يجب استجوابهم أمام قاضي التحقيق. قد لا يعلم المصريون أن نصف المعينين من العمالة في مجلس الشعب في السنوات القليلة الماضية جاءت من منطقة السيدة زينب على وجه الدقة. بعض هؤلاء لم يعينوا بصفة دائمة حتى الآن، وكثير منهم جاءوا بعد عملهم في أجهزة الشرطة، وعلى وجه التحديد قسم السيدة زينب الذي كان مقرا للجنة الانتخابية لرئيس مجلس الشعب السابق. وفي هذه المنطقة التي شهدت قتالا مع الثوار في معركةالجمل، وجه القضاء اتهمات لعدة ضباط بقتل المتظاهرين، ويحقق الآن مع عشرات آخرين بنفس التهمة. وعندما أفلت الضباط من حكم قضائي طال انتظاره نهاية الأسبوع الماضي،توجهت التوقعات بأن يتم الإفراج عن كافة المسجونين على ذمة تلك القضايا التي بدأت بإطلاق النار على المتظاهرين منذ يوم 25 يناير حتى موقعة الجمل في 2 فبراير 2011. هذه الأحكام جاءت في وقت خلا فيه ميدان التحرير من الثوار، وبعد أيام من هروب البلطجية من مسرح الجريمة، وعاد السكون التدريجي للميدان الصاخب عادة، بما يجعلنا في شك من قوة الأيدي المحركة لتلك الأحداث برمتها. فالهدوء يعود للمنطقة، بعد فترة قتال شرس، وهروب جناة من مسرح الأحداث ومشهد رؤية يتغير بأكمله. وضعت التغيرات المفاجئة المرء في حيرة من أمره،فكيف يسود الهدوء بهذه المنطقة، رغم العنف الشديد الذي واكب المواجهة التي وقعت لعدة أيام؟. فهذا الحسم لم يقع نتيجة التدخل الأمني، فنحن نعلم أن شباب الثورة غادروا التحرير منذ أسبوع، حتى يتركوا الفرصة للجيش للقبض على البلطجية والتعرف على المجرم الحقيقي في الميدان. إن ظاهرة اللهو الخفي التي عكست روح الفكاهة التي تولد من رحم المأساة في ميدان التحرير لم تأت من فراغ. فالشباب يتعرض للقتل والضرب بالنار من مجهولين، وإن ألقى القبض على أحدهم، فمسرح الجريمة تتغير معالمه ورموزه على وجه السرعة. وليس أمام قاضي التحقيق إلا أدلة ملعوب في أساسها أو متغيرة المعالم، فلا يحكم إلا بما يعلمه وفقا للقانون. وتسقط كل الاداعاءات التي يطرحها الناس، لأن القضاء لا يحكم بالنوايا أو ما تستطيع الأجهزة المعنية أن تحدد مساره، عملا بمبدأ «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا». فها هي كاميرات التصوير التي تلف مجلس الشعب وتتراص على أعمدة الإنارة على جانبي شارع القصر العيني ومجلس الأمة المحيطة بمجلس الوزراء، لا يستعان بأية صور منها. وهذه الكاميرات التي انفقت عليها الملايين من الموازنة العامة للدولة ترصد على مدار الساعة قبل واثناء الثورة وحتى الآن كافة ما يجري في الشارعين وحتى فوهة المنطقة المتاخمة لميدان التحرير والتي كانت بؤرة للأحداث الملتهبة. ولم نجد مصدرا أمنيا يعلن ما حوته تلك المشاهد المسجلة على الهواء مباشرة. بل وجدنا من يتلف طابقين في مبنى مجلس الشعب، أتت النيران على جزء منها، بينما اختفت كثير من المحتويات، رغم حراستها من عشرات المشاركين في إلقاء الحجارة على المتظاهرين. بالافراج عن الضباط المتهمين في قتل المتظاهرين انكشف القناع الزائف عن تلك الأجهزة التي تعمل ليل نهار لتسجيل الوقائع حول البرلمان. فلا صورة خرجت منها ولا تقارير نقلت الأحداث كما وقعت للقضاء. واختفت تلك الصور من الساحة برمتها، تماما كما حدث في «السيديهات» التي سجلت مكالمات حبيب العادلي مع قيادات الأمن العام والأمن المركزي أثناء الثورة، وحتى يوم 28 يناير حيث أمر وزير الداخلية الضباط بالانسحاب وحدث الانفلات الأمني وتهريب المساجين من السجون. ضاعت معالم الجريمة التي قتلت الشهداء أمام مجلس الشعب، تماما كما حدث في كل أنحاء الجمهورية، وأمام مجلس الشعب والوزراء في الأحداث الجريمة. فهناك مصلحة عامة لإسقاط الجرائم عن فاعلها الأصلي. والمصلحة هنا مرتبطة بأشخاص، حركتهم قيادات ورموز النظام السابق، وتواصل الآن حمايتهم بكل ما أوتيت من قوة، بالطبع ليس عشقا لهم بل لأن عدم حماية الطرف الأول من الجريمة ستهيل التراب على كافة الوقائع والمجرمين الأصليين، المربوطين في نهاية السلسلة برمتها. لقد ظن الناس أن تحويل المجرمين للقضاء نهاية المطاف، ولكن الحصيف منهم، على علم مسبق بأن القضاء لن يستطيع أن يحسم القضية بمفرده، وبقوانينه وأدواته العادية. لذا عندما صدرت أحكام تبرئة ضباط السيدة زينب، لم يصب هؤلاء الحصفاء بالدهشة، فالعكس كان صحيحا، فالحكم على ضابط أو مسئول بارتكاب هذه الجرائم من رابع المستحيلات. وجاء الدور الآن لتهريب كل مشعلى الأحداث الساخنة بعد الثورة كي يفروا بفعلتهم، التي أدت إلى مقتل العشرات من الشباب وتقليع عيونهم أو تقطيع أوصالهم. فالدهشة أن تصل أيدي العدالة لمرتكبي هذه الأحداث، طالما ظل البعض يعتقد أن أحداث الثورة يحسمها رموز مازالت معادية لها. وها نحن أمام وقائع يحقق فيها رجال النظام السابق، و برلمان مازالت تتحكم في إدارته نفس الرموز، فلن يستطيع أي نائب تغيير مسار التاريخ الذي يرسمه له من يحددون له خطواته الأولى في البرلمان. فإذا فشلنا في محاكمة قتلة الثوار ومشعلى الفتنة أمام مجلس الوزراء، فما علينا سوى الانتظار حتى يبدأ مجلس الشعب أعماله، فنوضح الخطى التي ينتهجها حتى لا تلتف الثعابين حول رقبته وهو جالس تحت القبة، فإما تحركه كما شاءت أو تبث السم في عروقه، دون أن تظهر كالعادة في المشهد أو ترصدها عيون الناس أو تترك وراءها بصمات وشهود.