أثار فوز دونالد ترامب الرئيس الأمريكى المنتخب الكثير من التساؤلات على مستويات عالمية مختلفة بشأن نهج السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة رئاسته خاصة فى ضوء مواقفه المتطرفة التى أعلنها خلال حملته الانتخابية، وهو ما عزز مخاوف متعددة من تحولات حادة فى مواقف الولاياتالمتحدة تجاه العديد من القضايا العالمية. وإذا كانت تلك السمة العامة لردود الفعل الدولية، فإن الأمر اكتسب طابعا خاصا على مستوى ردود الفعل العربية والإسلامية فى ضوء الأهمية التى تمثلها طبيعة القابع فى البيت الأبيض على مواقف الولاياتالمتحدة تجاه قضايانا العربية والتى تحتل موقعا ثابتا فى أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. ورغم الفرحة التى بدت فى أوساط عربية عديدة بفوز ترامب فى ضوء الخبرة السيئة للسنوات الثمانى الماضية التى عكستها تجربة الرئيس الأمريكى باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون التى خسرت المعركة أمام ترامب، إلا أن الأمر يجب ألا يتم التعامل معه بمثل هذه البساطة، حيث إن محددات السياسة الأمريكية تجاه الخارج لا ترتبط بشكل أساسى بتوجهات الرئيس، وإنما تحكمها مجموعة اعتبارات موضوعية من بينها القوى المؤثرة على صنع القرار الأمريكى وهى متعددة وتأتى على رأسها جماعات الضغط التى يمثل اللوبى اليهودى أكثرها قوة وهو ما ينعكس فى حجم تأثير منظمة الإيباك. إن نظرة دقيقة على مجمل المواقف الأمريكية خلال الرئاسات المختلفة على امتداد سنوات الصراع العربى مع إسرائيل تكشف عن تعاظم تأثير اللوبى اليهودى وتوجيهه للقرار فى صالح إسرائيل. وفيما يشير إلى ذلك ما ذهب إليه ألبرت بايك المناضل الأمريكى وعضو المجلس الماسونى العالمى فى 1871 والمؤرخ الروسى ميشيل توماس فى 2015 من أن هناك حكومة خفية وسرية تحكم العالم وأموره وتحدد مصائر شعوبه، ويقصد الرجلان أن هناك شخصيات قد تكون خفية هى من تمْلى قراراتها وإرادتها على زعماء الدول الكبرى الذين يبدون كأنهم يفرضون إرادتهم على القرارات العالمية. والحكومة الخفية هى عبارة عن جماعات ومنظمات تكَون لوبيات تؤثر في قرارات الدول الكبرى، وتمارس هذه التنظيمات ضغوطها من خلال سطوة المال والنفوذ أو قوة وضخامة الكتلة التصويتية، كما هو الحال فى منظمة لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية «AIPAC» اليهودية فى الولاياتالمتحدة، التى تم تأسيسها فى عام 1953 فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق دوايت أيزنهاور، وكان اسمها الحقيقى «اللجنة الأمريكية الصهيونية للشئون العامة»، وعندما حدث خلاف بين أيزنهاور وحولَ أعضاءها للتحقيق تم تعديل اسمها منذ ذلك الوقت إلى ما هو عليه الآن. وترأس منظمة الإيباك الآن السيدة ليليان بينكوس، وهى أول سيدة ترأس المنظمة وهى أحد أبناء الناجين من الهولوكوست، وتسعى بينكوس لأن تضم المنظمة أكبر عدد من مؤيدى إسرائيل من مختلف الطوائف خلال فترة توليها التى تتراوح ما بين العامين، وتعتبر الإيباك الآن هى الأولى فى جماعات الضغط اليهودية فى الولاياتالمتحدة، كما يقول براد شيرمان عضو الكونجرس عن ولاية كاليفورنيا. وتضم الإيباك 100 ألف عضو من مختلف الطوائف، الغالبية من اليهود الأمريكيين وهناك آخرون من المسيحيين الصهاينة، وغيرهم. ووضعت منظمة الإيباك منذ تأسيسها عدة أهداف على رأسها التعاون الأمريكى الإسرائيلى من أجل الضغط على الحكومة الفلسطينية وجماعة حماس، من أجل تحقيق الأهداف الإسرائيلية، ووقف التقدم النووى الإيرانى، وضمان المساعدات الأمريكية ليس فقط فى مجال التسليح والتأمين العسكرى، ولكن أشكال التعاون تمتد لتشمل العديد من مجالات الأمن الإلكترونى، الدفاع، المخابرات، الطاقة والمياه والزراعة وغيرها. وتضع منظمة الإيباك شعارا على موقعها الإلكترونى يلخص مهمتها فى الولاياتالمتحدة والمجتمع الأمريكى بكل مؤسساته وهو «تقوية وحماية وتعزيز العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فى الاتجاهات التى تضمن أمن البلدين»، وتهدف علاقات البلدين التى تعنيها الإيباك بالنص إلى «دفع مفاوضات حل الدولتين للأمام» الدولة اليهودية الإسرائيلية والدولة الفلسطينية غير العسكرية، وهو ما يجعل هناك تساؤلا حول الدور الذى تلعبه منظمة الإيباك فى قضية الصراع العربى الإسرائيلى فى الشرق الأوسط. ويقول الشعار أيضاً إن فريق العمل والناشطين المنتمين للمنظمة يوضحون لمتخذى القرار فى الولاياتالمتحدة مدى قوة الروابط التى تجعل أمريكا وإسرائيل متحدتين، كما يحاولون التأكيد لهم أن استمرار مساعدة إسرائيل وضمان بقائها آمنة وقوية ومستقرة، يحقق بالتبعية المصلحة العليا للولايات المتحدة. وتشجع الإيباك كل أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ من الحزبين الديمقراطى والجمهورى، على دعم ومساعدة إسرائيل وشراكة الحكومتين. وتقوم الإيباك بدعم كل المؤيدين لإسرائيل من كل الأعمار والأديان والأحزاب السياسية على غرار شعارها فى مؤتمر كل مارس من كل عام «يد بيد مع الإيباك» HAND IN HAND WITH AIPAC، ويقدر ما قامت الإيباك بإنفاقه عام 2015 من أجل حشد كل الجهود والشخصيات من أجل تأييد إسرائيل فى أنحاء الولاياتالمتحدة بمؤسساتها 3،388،700 مليون دولار، من بين 4،189،000 مليون لكل منظمات اللوبيات اليهودية هناك. وتلعب الإيباك دورا رئيسيا فى الانتخابات الأمريكية، حيث تستضيف كل مرشح من كل حزب فى مؤتمر عام، من أجل عرض برنامجه الذى لابد أن يتضمن جانبا من توجهاته فى السياسة الخارجية الأمريكية بعد وصوله للبيت الأبيض، وعلى رأس هذه الموضوعات الصراع العربى الإسرائيلى ومحاولات إعلان الدولة الفلسطينية، ثم دفع كل القرارات الأمريكية فى اتجاه تحجيم قوة إيران النووية، عن طريق إقرار العقوبات على الدولة الفارسية، وهو ما نجحت فيه الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيسين باراك اوباما وجورج بوش الابن. وقد كشف الدكتور ديفيد ديوك أستاذ التاريخ وعضو الكونجرس السابق فى تصريحات له عن الدور المخابراتى الرئيسى فى المفاوضات الأمريكيةالإيرانية الخاصة بالاتفاق النووى، وأكد فى خطابه فى الكونجرس أنها مستقاة من بعض رجال الموساد الإسرائيلى، وأشار ديوك إلى أن إسرائيل تود عدم تقدم وإتمام أعمال الاتفاق النووى حتى تقود الولاياتالمتحدة إلى صدام عسكرى مع إيران وإشعال الحرب فى المنطقة «حسب المخطط الصهيونى» على حد قوله، وهو ما يعتبره ديوك ضد المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط. وإذا سألنا عن سر قوة اللوبى الصهيونى فى الولاياتالمتحدة بشقيه اليهودى والمسيحى على حد قول البروفيسور جون ميرشايمر فى كتابه «اللوبى الإسرائيلى والسياسة الخارجية الأمريكية»، فإن الإجابة تتلخص فى القوة التصويتية التى يشكلها اليهود فى 10 ولايات، أى بنسبة 52% من بين جملة السكان فى الولاياتالمتحدة مجتمعين، بالإضافة إلى الموالين لإسرائيل من دون اليهود، وهى قوة لا يستطيع أى مرشح سياسى سواء فى الكونجرس أو لكرسى الرئاسة الأمريكية أن يتجاهلها، حيث تستطيع الإيباك وباقى المنظمات اليهودية هناك ويبلغ مجموعها 52 منظمة، أن تجمع 244 مليون صوت من بين 277 مليونًا وهى النسبة المرجوة لإنجاح أى رئيس قادم للبيت الأبيض، ومن ثم استجابته فيما بعد لمطالبهم، فضلا عن التمويل المليونى لحملاتهم الرئاسية وتخصيص كل رجل أعمال يهودى لمرشح كل حزب. وفى هذا الإطار يشار إلى أن إيباك تلقت 7،168،396 مليون دولار من متبرعين يهود وغيرهم من أجل دعم الانتخابات الأمريكية فى 2016، وهو ما يمثل استمرارا للنهج مع الرؤساء الأمريكيين حيث دعمت إيباك حملة أوباما فى 2012 بمجموع 15،102،210 مليون دولار، من أجل استكمال فترته الرئاسية التى حقق فيها كل الأهداف الإسرائيلية فى الشرق الأوسط، بسقوط الأنظمة والدول العربية واستباحة أراضيها وثرواتها وشعوبها، منذ اندلاع ثورات الربيع العربى فى 2011. وقد قام 100 عضو من الكونجرس بزيارة إسرائيل تحت رعاية الإيباك، كما قام 64 عضوًا فى 2013 بزيارة إسرائيل للتعرف على موقعها وتاريخها والتهديدات الأمنية التى يزعمونها، وزيارة رئيسها والمواقع التاريخية والدينية الفلسطينية، مع ادعاء أنها إسرائيلية ومغتصبة من الفلسطينيين، مع مقابلتهم للرئيس الإسرائيلى وحضانات الأطفال التى يدعون تعرضها لصواريخ القسَام واعتداءات الفلسطينيين، وكسب ود أعضاء الكونجرس ودعمهم لأية قرارات أو قوانين للصالح الإسرائيلى. كما سبق أن زار الرئيس الأسبق جورج بوش الابن لإسرائيل قبل انتخابه رئيسا لكسب ود اليهود الأمريكيين فى عملية التصويت من 2001 إلى 2009، وشهدت هذه الفترة وجود 6 وزراء يهود فى حكومات بوش، ثم 17 مسئولًا يهوديًا فى حكومات الظل والمساعدين والخارجية والمجالس الأمنية، ومن بعده باقى الرؤساء الأمريكيين. وعن حجم تأثير إيباك أكد الدكتور ديفيد ديوك اتساع نطاق تأثيرها بشأن السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وقلبها رأسا على عقب من خلال دفع الولاياتالمتحدة إلى خوض حروب وصفها بأنها بالوكالة لصالح إسرائيل، وعلى رأسها احتلال العراق وأفغانستان وادعاء تهديد الجماعات المسلحة والمتطرفة لأمن العالم الغربى وإسرائيل، وعلى رأسها الجماعات الإسلامية العربية التى منحتها لقب «الإرهابية» منذ انهيار برجى التجارة العالميين فى أحداث 11 سبتمبر 2001. وفى ذلك الصدد أيضاً يؤكد الكاتب الروسى ميشيل توماس أن ما واجهته المنطقة من أحداث صناعة يهودية إسرائيلية أمريكية، من أجل دخول العالم والشرق الأوسط وعلى رأسها الدول العربية فى مرحلة جديدة من الدمار والاستغلال لثرواتها وتغيير شكل الشرق الأوسط من أجل المصلحة العليا لإسرائيل، حتى تصبح القوة العظمى الوحيدة فى المنطقة.