تجمعنى وصانع الحلوى السويسرى «جاكومو جروبى» علاقة حب من طرف واحد، عرفانًا بالفضل والجميل لثرثرتى المستمرة عن ثراء روحى وامتلاء عينى وقلبى بالجمال وبهجة المكان دون ان يدرى عنه شيئاً، وهو الذى توفى عن عمر ناهز السادسة والتسعين ولم يسمع باسمى من قبل، ليدفن بعيداً عنى بآلاف الأميال فى قريته «روفنيو» تاركاً محله الشهير لأحفاده «شيزار» و«بيانكى» آخر ورثة المحل عن جدهم ومؤسسه «جروبى»، وقد قاما ببيع المحل إلى الشركة العربية للأغذية سنة 1981. أحببت «جاكومو جروبى» الحلوانى لأنه فقير مثلنا، جاء من بلده سويسرا الباردة والقابعة فى أقصى الشمال الغربى للقارة الاوروبية أواخر القرن التاسع عشر الى مصر بعد أن تعلم صناعة الحلوى من أقاربه، ملتمساً دفأها وعطاءها الكونى الفياض على ابنائها المصريين وغيرهم من جنسيات العالم الرحب، خاصةً بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، والنمو الاقتصادى الذى بدأ يدب فى محلات ومقاهى قاهرة الخديو إسماعيل عاشق المعمار الفرنسي، فزحفت بالآلاف جاليات يهودية ويونانية وإيطالية وفرنسية وشامية لتقدم بانوراما حضارية متنوعة الثقافات تفرز موسيقاها وشعرها وأدبها بنعومة تهضمها طبقات المجتمع المصرى كل حسب ذائقته الاجتماعية والمادية. على بعد خطوات من المعبد اليهودى الشهير بشارع عدلى باشا، تقع حديقة جروبى التى لا تنتهى حكاياتها.. ففى فضائها الاستثنائى وسط ضجيج القاهرة الخانق يمكن أن تستنشق مع هوائها مائة عام من تاريخ مصر المحروسة. دخلتها لأول مرة منذ ستة وثلاثين عاماً بعد وجودى فى الحياة بأربعة عشرة عاماً، وفى يدى ثروة تقدر بنحو ثلاثة جنيهات هى حصيلة عشرات القبلات وادعاء الهدوء والادب بعيد سعيد من العمات والخالات وأصدقاء أبى والجيران الذين على أيامنا السعيدة كانوا يعطون عيدية. كنا صغارًا وفقراء فقررنا أن نعيش ولو سويعات فى حضرة حديقة «جاكومو جروبى» بعد ان دخلنا وخرجنا مئات المرات نختلس النظر بانبهار يكاد يقطع الأنفاس لمشاهدة سفرجية «جروبى» من النوبيين والسودانيين، الذين يعملون على خدمة الزبائن، فى زيهم الانيق الموحد بالأبيض والاسود، محتفظين بملابسهم الكلاسيكية الأنيقة فيرتدون زياً مكوناً من قميص وبنطلون وسديرى وبابيون، هاماتهم مرفوعة فى كبرياء محببة وابتسامة لا تفارق شفاههم تظهر أسنانهم البيضاء الناصعة. لم تكن حديقة «جروبى» فقط مكانًا مفتوحًا على السماء يستنشق هواءه النقى فى طقس صباحى الشاعر الكبير «كامل الشناوى»، يقرأ جرائده ويكتب الشعر ويشرب عصيره المفضل. بل أسلوب حياة فى زمن جميل تذوق معطياته الجميع فقراء من أمثالنا وميسورين من أمثال الفنان المحبوب «أحمد رمزى» الذى كان يتردد على جروبى بصفة شبه يومية مع أصدقائه وأقربهم الى قلبه «ميشيل» زميل الدراسة الثانوية والعضو الرئيسى فى شلة حديقة «جروبى» لتلتقطه عين مخرج شاب اسمه «يوسف شاهين»، ويعطيه بطولة مطلقة فى أول أفلامه «صراع فى الوادي» ليصبح فيما بعد النجم العالمى الكبير «عمر الشريف». اقترب من البرجلة الخشبية فى الركن القصى للحديقة وأنا فى الخمسين من عمري.. لمحته ذلك الطقم الفورفورجيه الصغير بلونه الزيتونى الهادئ وموضته التى ترجع لسبعينيات القرن الماضي، القابع أمام القاعة الزجاجية للحديقة التى كانت المطربة الشهيرة «أسمهان» تحتسى بداخلها مع أصدقائها فناجين الشاى والقهوة مع أحاديث الفن والسياسة. حديقة «جروبي» كانت تاريخ مصر الحى وشاشته الفضية التى تعكس أحداثها اليومية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ففى سجلات يوميات زبائن الحديقة وذكرياتهم يكتب «عيزرا وايزمان»– الذى صار فيما بعد رئيسا لإسرائيل انه كان يتناول إفطاره يوميا فى جروبى طوال فترة وجوده فى مصر كجندى يهودى بالجيش الانجليزي! ولا يمل الفنان الكبير «سمير الاسكندرانى» من الحديث عن ايقاعه بعشرة جواسيس كانوا يعملون لصالح الموساد الإسرائيلى من العيار الثقيل، كان أحدهم «جورج استاماتيو» أحد عمال جروبى فى عام 1960.