حين وقعت صدمة انتخاب دونالد ترامب على العالم، سعى بعضنا إلى تطمين نفسه إلى أن الرئيس المنتخب سيكون غير المرشح المنفلت، وأن المؤسسات الأميركية الراسخة لا بد من أنها ستضبط إيقاعه، وترشد اندفاعته. وبقدر ما تبدو هذه الفكرة مستندة إلى منطق مفهوم وتقاليد مؤسسية خطّها الدستور الأميركي لضمان التوازن بين السلطات ومراقبة بعضها بعضاً، تنضوي على رهان هشّ مراوغ، كون هذه التقاليد تنتمي إلى «ثوابت» أخرى كثيرة جرفها بلدوزر مقاول العقارات في طريقه إلى البيت الأبيض. لم يخفِ ترامب رغبته في تحدي التوازنات القائمة بين المؤسسات خلال حملته. كما أن تفويضه يقوم في حده الأدنى على تصور أنه الوحيد القادر على «زعزعة الأمور في واشنطن»، على ما يقول مؤيدون كُثر في معرض تبريرهم انتخابه رغم الفضائح التي توالى ظهورها خلال السباق الرئاسي. وإذا كانت انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أوقعت مجلسيه في قبضة الجمهوريين، ومنح الفراغ على منصة المحكمة العليا فرصة للرئيس المنتخب للإتيان بحليف يضمن ولاءه ويعزز الغالبية الموالية للجمهوريين المهيمنة على السلطة القضائية منذ عهد ريتشارد نيكسون، يصبح الرهان على المؤسسات تعويلاً خالصاً على الحزب الجمهوري. غير أن الحزب ذاته منقسم ومرتبك بفعل زلزال ترامب. مخضرموه، وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب بول ريان، يحاولون إرضاء ساكن المكتب البيضاوي المنتظر، بعدما رفض بعضهم دعمه خلال الانتخابات، وناصر آخرون علناً منافسته الديموقراطية الخاسرة هيلاري كلينتون، وسحب فريق ثالث تأييده له مع تزايد الفضائح. وفي سياق هذا الاسترضاء، خرج ريان المنتمي إلى الفريق الأخير ليكيل المديح لترامب بعد النتائج، وينسب إليه فضل الفوز بالغالبية في الكونغرس. في ظل اختلال التوازن هذا وسعي قسم كبير من قادة الجمهوريين إلى ترميم علاقاتهم مع ترامب، يبدو صعباً تصور أن يبادر هؤلاء إلى الصدام مع الرئيس، خوفاً من خسارة قاعدة الناخبين المؤيدة له في ولاياتهم، خصوصاً أن نتيجة الانتخابات الرئاسية أظهرت محدودية تأثيرهم في جمهور متغير للحزب يضعهم ضمن «نخبة حاكمة» فوّض ترامب لتحجيمها. ولعل الترشيحات التي تداولتها وسائل إعلام أميركية خلال الأيام الماضية للمناصب الأساسية في إدارة ترامب تعزز توقعات تحجيم نفوذ مخضرمي الحزب وقادته، لمصلحة أصحاب الأصوات العالية والمواقف الحادة، سواء من المحافظين الجدد العائدين بممثلهم جون بولتون، سفير جورج بوش الابن لدى الأممالمتحدة، أو الشخصيات المثيرة للجدل في الحزب مثل نيوت غينغريتش الذي أجبر على الاستقالة من رئاسة مجلس النواب بعد «توبيخه» بسبب شبهات فساد في نهاية التسعينات، وعمدة نيويورك السابق رودي جولياني الذي تفرغ لمهاجمة خصوم ترامب بشراسة خلال الحملة، وصولاً إلى مسؤول ملف الطاقة والبيئة في فريق ترامب الانتقالي مايرون أبيل المعروف بإنكاره التغير المناخي. على أن هذا لا يعني أن المؤسسات ستكون عاجزة تماماً في مواجهة ترامب، فهي ستحاول الاستفادة من ترسانة القوانين واللوائح والأعراف لضبط سلطته، مستندة إلى ضغوط داعمة من المجتمع المدني الحيوي. لكن نتائج اختبار القوة هذا ليست محسومة كما يأمل كثر. وما يعنينا والحال هكذا، أن كثرة جبهات ترامب المفتوحة مع الكونغرس وقادة الحزب الجمهوري، ستجعل على الأرجح من قضايا منطقتنا ساحة التنازلات الأكبر من المؤسسات التي ستصب اهتمامها وتركز أدواتها على حماية وجودها ودورها، إضافة إلى القضايا الداخلية. التعويل على المؤسسات فكرة مريحة، لكن الاطمئنان الكامل إلى نتائجه خطير، ويعد بمفاجآت غير سارة. تماماً كما حدث حين ذهب العالم إلى النوم على فراش مريح من استطلاعات الرأي وأحاديث الخبراء القاطعة بفوز كلينتون، ليستيقظ على إعصار فوز ترامب. ويكفي أن نتذكر أن المؤسسة الحزبية التي يقع على عاتقها ثقل رهان استئناس المقبل الجديد ولجم جموحه، هي ذاتها المؤسسة التي فشلت في حماية نفسها منه وحرمانه بطاقة الترشح باسمها. نقلا عن صحيفة الحياة