اختلفت التقديرات، ولكنها جميعًا كارثية.. بعض التقديرات تقول إن الحكومة تستعين ب 83 ألف مستشار، يتقاضون سنويًا 24 مليار جنيه.. تقدير آخر يؤكد أن مستشارى الحكومة 70 ألف مستشار فقط، لكنهم يلتهمون ثلث موازنة الدولة.. تقدير ثالث يقول إن عددهم 26 ألف مستشار يتقاضون 13 مليار جنيه سنويًا.. أما أقل التقديرات فيؤكد أن العدد 20 ألف مستشار فقط، رواتبهم تزيد على 16 مليار جنيه سنويًا.. والغريب أن موازنة الدولة خصصت 43.8 مليون جنيه للمستشارين المصريين، و15 مليون جنيه للمستشارين الأجانب خلال العام المالى الحالى. ومع اختلاف التقديرات، وضخامة رواتبهم تلتزم الحكومة الصمت وترفض تمامًا الإعلان عن عدد مستشاريها، وحجم الأعمال التى يقومون بها، ومقدار ما يتقاضونه شهريًا، ولا أحد يجزم على وجه الدقة إن كان هذا الصمت يعنى القبول كما هو حال صمت البكر عندما يسألونها عن عريس يتقدم لخطبتها، أم هو صمت الخائف من الجهر بجريمة ارتكبها أم صمت متجبر لا يقيم لأحد وزنًا. وبداية حكاية المستشارين تعود إلى 64 عامًا مضت، وتحديدًا عقب ثورة 1952، وقتها عرفت مصر لأول مرة نظام المستشارين فى أروقة ودواوين الحكومة.. فبعد ثورة يوليو 1952، تم استحداث منصب «مستشار» كباب خلفى لتعيين عدد من الضباط الأحرار فى عدة جهات حكومية، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى أصبح منصب المستشار فى الوزارات والهيئات الحكومية حكرًا على المحاسيب، بعدما تحول المنصب إلى سبيل لمجاملة البعض، وتكريم للبعض الآخر، وباب لشراء ولاء فريق ثالث، ووظيفة لمن وصلوا لسن المعاش من رجال الحاكم ومواليه. وعام بعد آخر تزايد أعداد المستشارين حتى صاروا جيشًا جرارًا داخل الوزارات والجهاز الحكومى، يتقاضون سنويًا عشرات المليارات من الجنيهات، ولهذا تعالت الأصوات فى آخر سنوات حكم مبارك مطالبة بالاستغناء عن المستشارين، والتوقف عن الاستعانة بهم، ولكن كل المطالبات تبخرت، دون أن تغير شيئًا فى الواقع، ف «مبارك» لم يكن يسمع إلا رأيه فقط، ولهذا عاشت دولة المستشارين حينًا من الدهر. ومع ثورة يناير2011، كان من المنطقى أن تتوقف الحكومة عن الاستعانة بالمستشارين، إلا أن هذا لم يحدث، وكل ما قامت به حكومات ما بعد الثورة هو تقليل أعداد المستشارين من 200 ألف مستشار إلى 60 ألف مستشار فقط. وبعد ثورة 30 يونيو حدث تخفيض جديد فى عدد المستشارين ليصل عددهم فى عام 2013 – حسب مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية - إلى 26 ألف مستشار، يتقاضون 16 مليار جنيه سنويًا، ولكن الدكتور حازم الببلاوى، رئيس الوزراء الأسبق، أكد فى تصريحات له أن المبالغ التى يتقاضاها المستشارون فى الوزارات والشركات وصلت إلى 18 مليار جنيه. ولما تولى المهندس إبراهيم محلب رئاسة وزراء مصر خلفًا للدكتور «الببلاوى» طلب من وزراء حكومته تحديد عدد المستشارين فى الوزارات لتقليص أعدادهم، والمفاجأة التى فجرها تقرير أصدره مؤخرًا المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، يؤكد أن الحكومة لم تقلل من عدد مستشاريها، وإنما زادت منهم، فحسب التقرير فإن هناك 83 ألف مستشار فى الوزارات والهيئات المختلفة، يتقاضون 24 مليار جنيه سنويًا، أى 2 مليار جنيه شهريًا، ونحو 66 مليون جنيه كل طلعة شمس. وأوضح التقرير أن هؤلاء المستشارين يتمركزون فى وزارات المالية والبترول والصحة والسياحة والتضامن الاجتماعى والتخطيط والعدل والتموين والتعليم والتعاون الدولى، فضلاً عن وجودهم فى بعض المحافظات، والهيئات الحكومية، خاصة الاقتصادية، وقطاع البنوك وعدد من الجامعات. وأكد المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى تقريره أن وزارة المالية تتصدر قائمة الوزراء الأكثر استعانة بالمستشارين، فوحدها تستعين ب500 مستشار. وقال المركز فى تقريره إن ما يتقاضاه هؤلاء المستشارون والخبراء ممن بلغوا سن الشيخوخة فى الوزارات والمصالح الحكومية كفيل بحل مشاكل البطالة لدى الكثير من الشباب، وتشغيل عدد من الشركات والمصانع المتعطلة عن العمل منذ سنوات، خصوصا أن الكثيرين منهم تجاوزت أعمارهم 75 عامًا، ولم يقدموا جديدًا للنهوض بالدولة اقتصاديًا. وأخيرًا بدأت الحكومة تنتبه لكبر أعمار المستشارين فقرر وزير قطاع الأعمال عدم التجديد أو التعاقد مع مستشارين فوق سن الستين. وفى مقابل الأرقام التى رصدها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية لأعداد المستشارين والتى بلغت 83 ألف مستشار، يقدر عماد مهنا - الخبير الاقتصادى - عدد المستشارين ب70 ألف مستشار فى الوزارات، ولكنه يؤكد أن رواتبهم تصل إلى ثلث الموازنة العامة للدولة، أى أكثر من 300 مليار جنيه مشددًا فى ذات الوقت على أن كل هؤلاء المستشارين «ملهمش لازمة». ولكن الدكتور أحمد عرفة - خبير الإدارة المحلية يرجح أن يكون إجمالى عدد المستشارين 20 ألف مستشار فقط مؤكدًا أن الحكومة بعد ثورة 30 يونيو خفضت عدد المستشارين بشكل كبير، ولكن ظل ما يحصلون علية لا يقل عن 13 مليار جنيه سنويًا. ووسط اختلاف التقديرات سألت مصدرًا بمركز معلومات مجلس الوزراء عن عدد مستشارى الحكومة فرفض الإجابة، مكتفيًا بالتأكيد على أن الحكومة تعتزم قبل مطلع يناير 2017، إنهاء عقود 1540 مستشارًا، فى الوزارات والهيئات الاقتصادية والصناعية والشركات والبنوك والمصانع والأجهزة المحلية والمحافظات، ضمن خطة حكومية لترشيد النفقات. وأكد الدكتور «أحمد عرفة» وجود سراديب كثيرة يتسلل منها المستشارون.. ويقول: «بعض الوزراء يشكلون لجانًا لإدارة أزمة ما ويستعين فى كل لجنة بمن يشاء ويمنحهم مبالغ ضخمة مقابل عضوية تلك اللجان، وبعض الجهات الحكومية تنظم دورات تدريبية، وتستعين فيها بمن تشاء مقابل مبالغ كبيرة، ولا تعتبر هؤلاء مستشارين»! ويضيف: للأسف هناك كثير من البنود يتم من خلالها صرف مبالغ كبيرة للمستشارين، فى مقدمتها الصناديق الخاصة، وبند الإثابة وهو البند الذى يتيح للوزراء صرف ما يشاءون من مبالغ لمن يشاءون، بالإضافة إلى بدل المؤتمرات وبدل اللجان والمكافآت، وكلها بنود تتيح للوزراء والمسئولين صرفها على من يشاءون من مستشارين. وتوقع الدكتور «عرفة» أن يقلل قانون الخدمة المدنية رقم 18 لسنة 2016 من الاستعانة بالمستشارين..، يقول: «القانون وضع شروطًا محددة فيما تستعين بهم الحكومة من مستشارين، فنص فى مادة 18 على أنه لا يجوز التجديد للمستشارين بعد 3 سنوات إلا بقرار من رئيس مجلس الوزراء، ويشترط فى المستشار أن يكون صاحب خبرة لا تقل عن 10 سنوات فى تخصصه، وألا يتجاوز ما يحصل عليه أى مستشار، الحد الأقصى للأجور (42 ألف جنيه شهريًا). والحقيقة أن ظاهرة المستشارين ليست بدعة مصرية، ولكنها واقع موجود فى كل دول العالم.. فكل دول العالم كلها لديها مستشارون داخل الوزارات، ولكن الفيصل كما يقول الدكتور عادل عامر مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية - هو السؤال: ما هى إنتاجية المستشارين داخل الوزارات؟.. يقول الدكتور «عامر» إن نتائج بعض الوزارات تشير إلى فشل المستشارين فى تقديم أى شىء إيجابى. ويضيف: دول العالم تقوم بتعيين المستشارين بقدر الحاجة إليهم والاستفادة من خبراتهم مقابل رواتب تتماشى مع طبيعة عملهم، ولكن ما يحدث فى مصر يعد شكلاً من أشكال الفساد، فى ظل تقاضى مستشارين للوزراء رواتب تفوق رواتب الوزراء أنفسهم، وهذه الرواتب لا تتناسب مع هيكل الأجور. وأضاف: يجب أن تتم مراجعة أعداد المستشارين بالوزارات بقدر الحاجة إليهم والاستفادة من خبراتهم، إذ إنه ليس من المنطق أن ندعى الشفافية، ونطالب باستعادة الأموال المنهوبة من الخارج ولدينا أشكال فساد فى الداخل. ويواصل: ليس من المنطقى أيضًا فى ذات الوقت الذى تطالب فيه الدولة المواطنين بترشيد استهلاكهم فى كافة أمور حياتهم، وتسير بخطوات ثابتة نحو رفع الأسعار وفرض مزيد من الضرائب، لسد العجز فى الموازنة، نجد ذات الحكومة تستعين بجيوش من مستشارى الوزراء يتوغلون داخل الحكومة، وبعضهم يتجاوز السبعين عامًا، ويحصلون على مبالغ قدرها البعض بأنها تصل إلى ربع ميزانية الأجور. مفاجأة الميزانية أغرب ما فى حكاية المستشارين هو ما ورد بشأنهم فى موازنة الدولة.. فحسب موازنة 2016- 2017 فإن مكافآت المستشارين خلال العام الحالى تبلغ 43 مليونًا و800 ألف جنيه منها 37 مليونًا و900 ألف جنيه لمستشارى الجهاز الإدارى، و100 ألف جنيه لمستشارى الإدارة المحلية و5 ملايين و800 ألف جنيه لمستشارى الهيئات الخدمية. المثير أن الموازنة حددت 15 مليون جنيه مكافآت للمستشارين الأجانب منها 2 مليون و300 ألف جنيه لمستشارى الجهاز الإدارى و100 ألف جنيه لمستشارى الإدارة المحلية و12 مليونًا و600 ألف جنيه لمستشارى الهيئات الخدمية. طبعًا ستسأل: إذا كانت هذه هى مخصصات المستشارين فى موازنة الدولة، فمن أين يحصلون على مليارات الجنيهات سنويًا؟.. الإجابة فى الصناديق الخاصة!