مشهد أشبه باللقطات السينمائية، وفانتازيا الرعب نشاهده الآن في بعض البلدان التي بشرت بربيع عربي مزهر ومثمر بالحرية والديمقراطية. شاهدنا ذلك في ليبيا الحرة، حيث الفصائل والقبائل التي تتناحر بحثاً عن موقع وهوية على الخارطة الليبية، التائهة تحت وقع البنادق وهدير الحرائق، وتشهد ذلك مصر، فالثورة التي عَيدت برحيل مبارك وأشادت بموقف الجيش، اليوم تحاصر رجاله ويحاصرها، ويقف الجميع عند مفترق طرق، والقتلى يتساقطون بذريعة الدفاع عن القانون والحفاظ على السيادة ومنع الفوضى ومحاربة “الصيع”.. أما اليمن الذي لم يتعاف بعد من وعكته الصحية، معارضته تريد تنفيذ المبادرة الخليجية، والشارع لم يزل يطالب بمحاكمة علي صالح، والحرب سجال بين طرفين يفترض أنهما يناضلان من أجل قضية واحدة، وربما تكون تونس الأحسن حالاً، على الأقل حتى إشعار آخر، وقبل أن تستيقظ مخالب الشر هناك وتضيع الحسبة. الكثيرون يلقون اللوم على الإخوان المسلمين، ويقولون هؤلاء هم التنظيم الوحيد الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، لأنه تنظيم مرتب الصفوف، مهذب العبارة في كثير من الأحيان، يعرف متى يصمت “يختل” ومتى يتحرك، وقد استفاد هذا التنظيم من خبرته الطويلة مع العسكر، فلذلك فهو الآن يدافع عن الجيش في مصر ويقف في صفه، في مجابهة “الفوضى” وهم يؤمنون بأن السياسة فن الممكن، وما لم تستطع أن تأخذه كله فلا تتركه كله.. لكن الآخرين، كما قال رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري “صيع” شباب لا يملك من الخبرة السياسية ولا الحنكة الثورية ما يجعله يتعرف بحماسة فطرية غير ممنهجة. الآن نسمع كل هذه التصنيفات والتنظيرات التي تهب رياحها من أفواه الذين طبلوا وزمروا وعمروا الكون بألوان خرافية ما أنزل الله بها من سلطان.. الآن فقط فهم هؤلاء أن الإخوان براجماتيون، وأن الثوار فوضويون، وأن الديمقراطية في خطر.. ولا أدري ماذا كان يتصور هؤلاء؟ بمعنى هل ستصبح ليبيا مثل السويد مثلاً.. كل هذا لن يحصل إلا لو حصلت الثورة ضد الثقافة العامة للشعوب قبل تحطيم الزجاج وحرق الإطارات في الشوارع، وسب هذا النظام وشتم ذاك.. نحن بحاجة إلى قرن من الزمن تكون فيه الجهود مكثفة ومنصبة على تغيير مفاهيم كثيرة، نحن بحاجة إلى تطهير الداخل من حثالة قاتمة، نحن بحاجة إلى تصالح مع النفس، ونبذ هذا التورم الذاتي الذي أصبح قيحاً. أما الشتائم والتنظيرات السياسية فما هي إلا نتاج هذا الخلل النفسي الذي تعانيه، وحالة الإنعاش التي تعيشها عقول البعض، بل الأغلبية. الحرية لا تأتي بالشتائم والكراهية، ولا بولائم الشاشات الفضائية. الحرية مفهوم وقناعة، وحياة. رجال التنظيمات الذين طالبوا بإزاحة الديكتاتورية هم أنفسهم قضوا ردحاً من الزمن يكتمون على أنفاس أحزابهم، ولا زالت لهم في البقاء بقية إن بقي العمر. هذه هي المشكلة. وكفى الله المؤمنين شر القتال.