رحلة البحث عن سرير بالعناية المركزة تمثل لحظات فارقة فى حياة مريض أصبحت أنفاسه معدودة وروحه معلقة على أبواب صماء لغرفة تحمل أجهزة الحياة. والأزمة الأكبر يعيشها أهل المريض الذين يلهثون على أبواب المستشفيات توسلًا ورجاءً ودعاءً بشق أبواب السماء خاصة إذا كانوا لا يملكون المال والواسطة وأمام أعينهم عذاب سيلاحقهم سنوات بالتقصير والفشل فى الوصول إلى سرير النجاة. وسرير العناية المركزة مثل الكثير من أمورنا الحياتية يملكه من يدفع وكلما زاد السخاء زادت الإمكانيات المتاحة.. لتبقى الحقيقة فى ظل الطبقية تعانى منها البلاد منذ سنوات طويلة أن الأغنياء ومن يملكون يعالجون وفقًا لإمكانياتهم.. أما الفقراء فإنهم يُمنعون!! وحكايات الفقراء والأرامل واليتامى للمرضى وذويهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء أمام أبواب المستشفيات تشيب من هولها الولدان وتتحجر أمام مآسيهم الدموع فى العيون، ونقف عاجزين أمام صرخاتهم وتوسلاتهم. قررنا أن نخوض التجربة ونبدأ رحلة البحث عن سرير فى العناية المركزة.. وكانت البداية فى مستشفى قصر العينى الصرح الكبير الذى رفع شعار «الموت أسهل من الحصول على غرفة بالعناية المركزة»، ومنه ذهبت إلى إحدى الطبيبات بعيادة طوارئ مخ وأعصاب للسؤال عن سرير بالعناية من عدمه وأخبرتها بأن والدتى مصابة بجلطة فى المخ وتحتاج الدخول إلى العناية بناء على طلب الإسعاف التى رفضت نقلها إلا بعد التأكد من وجود السرير المعجزة فما كان منها إلا أن طالبتنى بإحضارها والكشف عليها ثم الانتظار على ما تفرج بحسب تعبيرها قائلة وربنا يسهل وحد يموت من المرضى المتواجدين فى العناية المركزة وهى ونصيبها. وبمجرد خروجى من بوابة الطوارئ والاستقبال لفت نظرى تجمع صغير من بعض أهالى المرضى الباحثين عن سرير بغرفة الرعاية المركزة يتبادلون خلاله الحديث عن مآسيهم المتكررة فى محاولات بائسة لإنقاذ بعض الحالات الحرجة والخطيرة لذويهم لحين رد إ دارة المستشفى عليهم بوجود سرير رعاية مركزة من عدمه فكانت الأحاديث صادمة.. أحدهم يؤكد أنه حضر لقصر العينى العام الماضى بصحبة أحد أقاربه المرضى وبسؤاله عن غرفة العناية المركزة للحصول على سرير فاجأته إحدى الممرضات بالسؤال عما إذا كان يعرف أى طلب معالج أو استشارى يعمل بالمستشفى ولديه عيادة خاصة حتى يوفر له سرير العناية المركزة على اسمه وحسابه ونصحته بالذهاب لعيادته الخاصة والعودة بجواب تحويل منه مما يسهل الحصول على سرير عناية مركزة لوالده حيث إن هناك أسرة محجوزة بأسماء أطباء يعملون بالمستشفى، وآخرون أكدوا أن الموت كان أسهل وأسرع لذويهم من المرض فى إيجاد سيارة إسعاف أو سرير فى غرفة عناية مركزة ولا حتى مكان فى غرفة طوارئ!! وانتقلنا من مستشفى قصر العينى الحكومى لمستشفى المنيل التخصصى الاقتصادى. كان الحصول على سرير فى العناية المركزة أسهل نسبيًا ولكن أغلى وفوق طاقة من يصاحب مريض فاجأته الجلطة الدماغية أو أى مرض من الأمراض الخطيرة ولم يجد ضالته فى مستشفى الدولة المجانية فذهب إلى المنيل التخصص حيث بدأت جولتنا داخله بالاستعلامات ثم عيادة استقبال الطوارئ. ثم ذهبنا إلى خزينة المستشفى وبسؤالهم عن سرير لمريضة جلطة دماغية بالعناية المركزة بادرنا بالسؤال عما إذا كان معنا 5000 جنيه تحت الحساب أم لا وعندما أكدنا له توافر 3000 فقط لحين استكمال المبلغ وإحضار والمريضة أكد لنا بضرورة الصعود إلى الدور الرابع لسؤال المسئولين خاصة وأن مبلغ التأمين يختلف وفقًا للتشخيص من حالة لأخرى وداخل قسم العناية المركزة للمخ والأعصاب حاول أحد الموظفين مساعدتنا بسرير لنقل والدتى المصابة بارتفاع بضغط الدم وبسكتة دماغية من أحد المستشفيات بإمبابة وكانت المفاجأة من العيار الثقيل أن الدخول سيتم على اسم وبحث رعاية الدكتور رئيس الوحدة كإحدى حالاته ولكن أيضًا بشرط ال5000 جنيه. وعلى أبواب مستشفى 6 أكتوبر للتأمين الصحى بالدقى.. رفض مسئولو الأمن مجرد السماح لنا بالدخول للبحث عن سرير بالعناية المركزة مؤكدين عدم توافر أى أسرة بالعناية وبأنه لا داعى لإضاعة الوقت.. ومع إصرارنا على الدخول طالبنا بإحضار الشائعات والتحاليل والروشتات وحتى دون المريضة قبل الرد على توفيرسرير ورفع شعار فوت علينا بكرة.. فذهبنا نجر أذيال الخيبة والندامة والحسرة على بلد لم يعد لصحة وحياة البشر فيه مكان. تجارب خاصة صحفى شاب.. أصيبت والدته بنزيف فى المخ تطلبت حالتها الدخول فورًا للعناية المركزة وعلى مدار أكثر من 10 ساعات بذلت فيها كل المحاولات مع أطباء ومديرى مستشفيات وحتى قيادات بوزارة الصحة للعثور على سرير لكن للأسف عندما توافر السرير كانت الحالة تدهورت وتوفيت والدته فى اليوم التالى، تاركة ألمًا وحسرة فى قلوبنا جميعًا بعدما شعرنا حتى بعجز الدولة ممثلة فى مستشفيات وزارة الصحة فى إنقاذ مريضة وآلاف الحالات المحتاجة يوميًا لسرير فى العناية المركزة وتصطدم بالواقع الأليم. واسطة ولكن زميل صحفى آخر وزوجته الصحفية أيضًا قابلًا الواسطة ولكن بشكل آخر.. وحقيقة أن الحصول على سرير فى العناية المركزة رغم صعوبته هو أسهل بالقرى والمحافظات البعيدة بخلاف المدن والمحافظات الكبرى كالقاهرة والجيزة والإسكندرية.. وأن للواسطة طريق أيضًا فى مستشفى سنورس العام ولكن ليس من أجل الحصول على سرير وإنما من أجل الاستمرار على سرير العناية المركزة لحين قضاء الله أو الشفاء.. حيث دخلت والدة الزميل وحماة الزميلة للمستشفى على سرير بالعناية المركزة لإصابتها بجلطة بالمخ وغيبوبة شبه كاملة وبعد 22 يومًا ورغم التحسن النسبى قبل قضاء الله كان إصرار أحد أطباء الرعاية على خروجها وفعلًا قام بمحاولة نزع الأجهزة منها، وشاءت الأقدار أن يأتى ابنها زميلنا الصحفى ليقف فى وجه هذا الطبيب بمطالبته بتدخل وكيل وزارة الصحة بالفيوم وجاءت وساطته المشروعة لإبقاء السيدة فى السرير وإعادة الأجهزة المنزوعة إليها إلا أن قضاء الله قد نفذ وفارقت الحياة. نقص الحضانات أكد الدكتور يوسف جابر الملاح، استشارى الأطفال المبتسرين، تفاقم مشكلات نقص أسرة العناية المركزة فى جميع المستشفيات الكبرى، موضحًا أن هذا المشهد يتكرر بصورة أخطر فى حضانات الأطفال المبتسرين والتى تعد بمثابة أسرة للعناية المركزة للأطفال حيث يعانى أهاليهم من الانتظار فى طابور الدور والقائمة الطويلة جدًا نتيجة نقص الحضانات ذات التكلفة الباهظة نتيجة لحساسية أجهزتها ولفريق التمريض الذي دائمًا ما يهربون من هذا التخصص لمشقته! أمن قومى يرى الدكتور نبيل عبدالصمد الديبركى، استشارى الصدر والحساسية، والرئيس السابق لمعهد بحوث الصدر بإمبابة، ضرورة اعتبار الحاجة إلى توفير غرف العناية المركزة هدفا وطنيا ومشروعًا قوميًا إهماله يمس الأمن القومى للبلاد ويعرضه للخطر.. خاصة مع تزايد معدلات انتشار الأمراض الخطيرة كالأمراض الصدرية المتزايدة بسبب تلوث البيئة وزيادة معدلات التدخين وخاصة للمصابين بالمرض فى مراحله المتقدمة مثل الفشل التنفسى وتليف الرئتين والالتهابات الرئوية المزدوجة والدرن الرئوى الشديد وجميعها يحتاج المصابين بها إلى العناية المركزة، ولأن المشكلة ليست من وجهة نظر «الديبركى» قلة عدد الأسرة بسبب التكلفة العالية لإنشاء سرير الرعاية خاصة فى المستشفيات العامة والحكومية والتى يمكن حلها بالتبرعات وإنما المشكلة فى نقص عدد الأطباء المدربين على تشغيل أجهزة الرعاية المركزة ومتابعة المرضى، كذلك فالمشكلة من حيث نقص الأسرة غير موجودة بالمستشفيات الخاصة وإنما فى الأسعار المبالغ فيها ويصعب على الموطن تحملها ولذلك وبحسب الدكتور نبيل الحل يتطلب تضافر الجميع والقادرين والدولة برصدها لميزانيات أكبر لإنشاء أقسام الرعاية وتبنى حملات قومية لزيادة التبرعات من القادرين وضرورة وجود بروتوكول محدد لدخول المريض غرف العناية المركزة والذى بسبب قلة خبرة الأطباء يحتل المريض سرير العناية المركزة على حساب مريض آخر محتاج إليه بالضبط كما تقوم بعض المستشفيات الخاصة بالإسراف فى دخول العناية المركزة طمعًا ورغبة فى مجرد تحصيل أموال أكثر منه إلى جانب عدم صيانة أجهزة الرعاية مما يفاقم من العجز فى أسرة العناية! نقص حاد بصرف النظر عن حالة البنية التحتية وتجهيزاتها والمستلزمات الطبيعة ومدى توافرها من عدمها أو عن النقص الخطير بأطباء العناية المركزة على جميع المستويات من استشاريين واخصائيين وأطباء مقيمين بالإضافة إلى النقص الحاد فى أعداد التمريض المؤهل والمدرب على أعمال العناية المركزة إلى جانب عزوف التمريض منها نتيجة للعمل الشاق والعدوى فى بعض الأحيان، فهناك قصور غير طبيعى فى أداء خدمة العناية المركزة فى العديد من المستشفيات بمختلف أنواعها. وهكذا يرى الدكتور علاء عزت، خبير إدارة الكوارث استشارى العناية المركز والتخدير وعلاج الألم، وهو ما يستدعى بحسب كلامه خطة مستقبلية لحل مشكلة العنايات المركزة وتدعيم مباشر من القيادة السياسية لإنشاء مجلس أعلى للعناية المركزة برئاسة رئيس الوزراء ووزير الصحة كأمين عام وبعضوية المقيمين من قطاعات الطب العلاجى والتكليف والرعاية العاجلة ونقابة الأطباء وحتى وكلاء كليات الطب للدراسات العليا وعمداء كليات التمريض وممثلى وزارة المالية والتخطيط ومستشفيات الوزارات المختلفة والشرطة والقوات المسلحة وكذلك المستشفيات الخاصة ومراكز العنايات المتخصصة، تكون المهمة الرئيسية لكل هؤلاء معالجة مشكلة وأزمة نقص أسرة العناية المركزة من خلال 5 محاور أولها: زيادة عدد الأسرة بالعمل على تفعيل 100 ألف سرير خلال الخمس سنوات المقبلة بواقع 20 ألف سرير سنويًا ليتناسب مع الزيادة الافتراضية للسكان خلال نفس الفترة بشرط تقاسمها من القطاع الحكومى والخاص مع تضييق مراكز العنايات الخاصة إلى فئات تبعًا للعدد والتجهيزات والأطباء والتمريض والمساحة ومكافحة العدوى ومواصفات الجودة. أما المحور الثانى: بالعمل على زيادة عدد أسرة العناية المركزة المتوسطة وهى الحالات التى تستدعى عناية ولا يمكن استمرارها بهما لفترات طويلة على أن يكون هناك خدمات التصنيع والصيانة والتشغيل وهو ما يمثل المحور الثالث، أما المحور الرابع: فيتم من خلال توفير الأطباء بالمستوى اللائق والعدد والمطلوب من خلال عدة محفزات إلقاء فترة التكليف للأطباء المتقدمين لنيابة العناية المركزة أو إلغاء التغيير والتسجيل الفورى للدكتوراة لنسبة 50٪ من الحاصلين على الماجتسير سنويًا أو تخصيص بدل ندرة لذلك التخصص بواقع 500٪ أو بالإعلان عن تخصيص العناية المركزة أثناء فترة الامتياز لخريجى كليات التمريض مع تخصيص بدل ندرة بواقع 300٪ من الأساس العمل على التسليم الفورى للزمالة المصرية للعناية المركزة عقب استلام النيابة.. أما المحور الخامس فيتم من خلال توفير التمريض بالمستوى اللائق والعدد المطلوب بما يشبه محفزات المحور الرابع السابق سرده. ولذلك وبمحاولة تنفيذ أطروحة خارطة الطريق للتعامل مع تلك المشكلة التراكمية المزمنة وبحسب الدكتور علاء عزت سيتم التغلب علي مشكلة نقص العناية المركزة باعتبارها قضية أمن قومى يجب تمتعها بأولوية التطوير.