بين عشية وضحاها انقلب عالم الفن والإبداع رأساً على عقب، بمجرد الإعلان بفوز «بوب ديلن» بجائزة نوبل فى الآداب خروجاً عن المؤلف والمعتاد دائماً، وتحول العالم الفنى ما بين رافض الى حد المطالبة بمقاطعة الجائزة، أو محتفٍ إلى حد اعتبار هذا إنجازا لم يسبق إليه أحد فى تلك الجائزة العالمية.. وبوب ديلن فى حد ذاته خارج عن المألوف فى كل شىء موسيقاه، كلماته التى يكتبها وأفكاره السياسية وآرائه الدينية، ولكنه دوماً ملتصق بالشارع متطور لا يعرف فنه الجمود، ولم تصب الشيخوخة أعماله وفنه.. وبعيداً عن كل هذا دعنا نؤكد أنه لا يمكن فهم صعود نجم ديلن من دون ربطه بالسياق الثقافى والسياسى العام الذى بزغ فيه نجمه.. وابتداء من 1964 تحول ديلن إلى العزف على القيثارة الكهربائية منتقلاً من موسيقى الفولك إلى الروك الذى صار آنذاك اللون الموسيقى الأكثر أهمية والتصاقاً بهموم وتطلعات الشباب الأمريكى. ولقد شارك ديلن فى ألمع التظاهرات والمهرجانات الموسيقية فى الولاياتالمتحدة، وأدى بعض الأغانى مع مغنية الفولك الشهيرة جون بيز التى كانت هى الأخرى من بين أبرز ممثلى الفن الملتزم المناهض لحرب فيتنام آنذاك.. إلى جانب أن عالم السينما يعرفه من خلال أفلامه الملثم والمجهول مع بينلوبى كروز وموسيقى فيلم أنا لست هناك.. ويبقى أن ديلن أحدث ثورة فى عالم الفن، خاصة التأليف الموسيقى. وهناك حوار مع بوب ديلن قال فيه إن الأغانى الشعبية هى الشكل الفنى الوحيد الذى يصف صعوبة الأوقات، والمكان الوحيد الذى تحدث فيه هو الراديو والتسجيلات، وهو المكان الذى يقضى فيه الناس أوقاتهم، ليس فى الكتب، ولا فى المسرح، ولا فى صالات العرض. كل هذا الفنون التى ذكرت تبقى فقط على الرفوف، لأنها لا تجعل أى شخص أكثر سعادة، والموسيقى الشعبية هى كلمة لا يمكن استخدامها، لأنها ليست موسيقى تقليدية، فالموسيقى التقليدية تستند إلى النجمة السداسية، لأنها تأتى من الأساطير، والكتاب المقدس والأوبئة، وتدور حول الخضار والموت، ويرى أنه لن يحاول أحد قتل الموسيقى التقليدية، كل تلك الأغانى حول الورود النامية من أدمغة الناس والعشاق الذين هم إوز وبجع يتحول إلى ملائكة - لن تموت، إنهم كل أولئك الناس المرتابين الذين يعتقدون أن شخصاً ما سوف يأتى ويسلبهم ورق المرحاض خاصتهم - هم من سيموتون، أغنيات مثل ON ? Side Are You Which و« You Porgy I Love » – ليست أغانى موسيقى شعبية، إنها أغانٍ سياسية، وقد ماتت بالفعل.. ويضيف: كنت أقدم أغانٍى كثيرة لم أكن أود تقديمها، كنت أتغني بكلمات لم أكن أريد حقاً غناءها، أنا لا أقصد كلمات مثل «الله» و«الأم» و«الرئيس» و«الانتحار» و«ساطور اللحوم» أعنى كلمات بسيطة صغيرة مثل «لو» و«آمل» و«أنت»، لكن مع «رولينج ستون» تغير كل شىء: لم أعد مهتماً بعد ذلك بكتابة الكتب أو القصائد أو أياً كان، أعنى أنها كانت شيئاً باستطاعتى شخصياً تقديره.. إنه لأمر متعب جداً وجود أشخاص آخرين يخبرونك أنهم يقدرونك إذا لم تكن تقدر نفسك أولاً، كما أنها حكمة ترفيهية قاتلة للغاية، على عكس ما يعتقد بعض الناس المخيفين، أنا لا ألعب مع فرقة الآن لأي نوع من الدعاية أو أي نوع من الأسباب التجارية، الأمر مجرد أن أغنياتي «صور» والفرقة تصنع صوتا لتلك الصور.. و«بوب ديلن» اسمه الحقيقى روبرت ألن زيمرمان ولد في 24 مايو 1941 هو مغنٍ وملحن وشاعر وفنان أمريكى يتمتع بصوت رائع ومرن، لقد كان شخصية مؤثرة فى الموسيقى والثقافة الشعبية لأكثر من خمسة عقود، والكثير من أعماله الأكثر شهرة كانت من الستينيات، وكلمات أغانيه فيها من الحكمة والاحتجاج الشىء الكثير لأنه كان من الطبقة العاملة والمضطهدة بأمريكا، كما أنه تم استخدام بعض أغانيه كنشيد لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام، تميز بغنائه العديد من الأنواع الموسيقية مثل ريف والجوسبل والبلوز والروك، وأدرجت كلمات ديلان مجموعة متنوعة من التأثيرات السياسية والاجتماعية والفلسفية والأدبية، وأنها تصدت لموسيقى البوب وأحدثت تغييراً فيه. وقد اتجه ديلان بشكل كبير إلى الثقافة المضادة ثم المزدهرة، وفى البداية كان أسلوب ديلان مستوحى من أسلوب أداء ليتل ريتشارد، وتأليف الأغانى وودى جوثرى، روبرت جونسون، وهانك وليامز ثم بدأ بتطوير أسلوبه الخاص سواء كان فى الأداء أو كتابة الأغانى، ديلان يؤدى على الجيتار، البيانو، والهارمونيكا منذ عام 1994 ديلان نشر له ستة كتب من الرسومات واللوحات، وعرضت أعماله فى المعارض الفنية الكبرى كموسيقى. باع ديلان أكثر من 100 مليون أسطوانة فى جميع أنحاء العالم، مما يجعل منه واحداً من الفنانين الأكثر مبيعاً من أى وقت مضى، وقد تلقى العديد من الجوائز بما فى ذلك: جائزة نوبل للآداب 2016، 11 جائزة جرامى وجائزة أوسكار واحدة وجولدن جلوب واحدة، وفى مايو 2012، تلقى ديلان وسام الحرية الرئاسى من الرئيس باراك أوباما، وأول ألبوم استوديو له صدر فى عام 1962.. ولد بوب ديلن، فى 24 مايو 1941 فى بلدة صغيرة تسمى دولوث بولاية مينيسوتا قرب الحدود مع كندا، وتربى فى مدينة هيبينق بولاية مينيسوتا، واسمه الحقيقى روبرت زيمرمان، كان أبوه وأمه من المولودين فى أمريكا لمهاجرين يهود من أوكرانيا منذ عام 1905، تعلم العزف على الجيتار وهو طفل صغير وتحول إلى عازف محترف على القيثارة والهارمونيكا قبل أن يصل الثامنة عشرة من العمر. يقول إنه عندما أصبح في سن العاشرة تقريباً أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة كان عزف القيثارة هو الشىء الوحيد الذى يستهويه. كما استهواه الشعر والأدب بصورة عامة وكان متأثراً بالأديب الروائى جون شتاينبك. غنى بوب ديلن كثيراً ومن أشهر أغانيه «الإعصار» أو «الطرق على أبواب الجنة» المنتقدة للحرب، وتحوّل بوب ديلان للمسيحية في إحدى فترات حياته قبل أن يتركها، وصرح ذات مرة بأنه كان يتمنى لو كان موظفا عاديا يعمل كل يوم حتى الساعة الخامسة مساء ثم يعود للبيت وينسى كل شىء..أمضى سنواته الأولى بالاستماع إلى محطات الراديو - خصوصاً إلى موسيقى البلوز والريف التى كانت تبث من مدينة شريفيبورت بولاية لويزيانا، وعندما أصبح مراهقاً انتقل إلى سماع موسيقى الروك آند رول، كان ديلن يقضى وقته بين العزف والمطالعة. ففي تلك الفترة اكتشف كتابات شعراء البيت، وقرأ رواية على الطريق لجاك كيرواك، عزف وغنى فى أول حفل موسيقى برفقة فرقة جولدين كوردز فى عام 1955 وهى فرقة مكونة من أربعة شبان متخصصة فى موسيقى الفولك الشعبية بينما كان يدرس فى مدرسة هيبينغ الثانوية، انتقل إلى مدينة مينا بوليس فى سبتمبر عام 1959، حيث التحق بجامعة مينيسوتا. تلاشى اهتمام زيمرمان بموسيقى الروك آند رول وبدأ تعلقه وشغفه بالموسيقى الشعبية الأمريكية أو بما يطلق عليها ب «موسيقى الفولك» ولم يلبث ديلن أن ضاق ذرعاً بالحياة فى مدينة صغيرة والغناء فى البارات والمقاهى الرخيصة مقابل أجر رخيص يكفي بالكاد لسد الرمق.. عام 1961 وصل ديلن إلى نيويورك حاملاً معه قيثارته وحقيبة ثياب صغيرة.. وكانت نيويورك آنذاك مدينة تزدحم بالبارات والمقاهى والنوادى التى تقترح حفلات لموسيقى الفولك وغالبية المغنين يكتفون بإعادة أداء أغانى الفولك القديمة أو فى أحسن الأحوال نظم أغانٍ جديدة على منوال إيقاعات معروفة سلفاً، لكن الموسيقى فى نيويورك آنذاك كانت تعيش أيضاً على إيقاع حيوية ثقافية صاخبة بفضل شعراء وكتاب حركة البيتنيكس الذين كانوا ينظمون قراءتهم فى نوادى الجاز، ولم يلبث ديلن أن تعرف عليهم واحداً واحداً خاصة ألن جينسبرج الذى اشتم فيه منذ اللقاء الأول بذور عبقرية موسيقية جديدة، وشجعه على كتابة نصوص أغانيه وتطعيمها بحمولة ثورية احتجاجية كانت غائبة تماماً عند مغني الفولك التقليديين.. فى نيويورك التقى ديلن بنجمه المفضل مغنى الفولك ودى جوثرى الذى كان يتميز عن بقية المغنين بدفاعه عن الطبقات العمالية والمضطهدين، هكذا من حفلة لأخرى وفى غضون عام واحد اكتسب ديلن شهرة متعاظمة فى المدينة، فى العام التالى يغير اسمه من روبرت زيمرمان إلى بوب ديلن تيمنا بالشاعر ديلن توماس، ويصدر ألبومه الأول الذى لقى نجاحاً كبيراً على الفور وضم أغانيه الأكثر شهرة، فمنذ البداية سحر هذا الشاب الخجول بصوته الرخيم المسكون بنبرة حزن موجعة وأغانيه التى تغنى شجون الحياة اليومية عبر قصص قصيرة ومكثفة تحكى انكسارات وشجون المواطن الأمريكى العادى.