يبدو المشهد علي الساحة شديد الفوضي.. فقد كنا نظن أن من اضيروا في كل الانتخابات السابقة ومن زورت إرادة الناخبين في الماضي حتي لا يختاروهم: اعني كل الأحزاب الدينية - كنت اظن انهم سيكونون أحرص علي ان تكون الانتخابات الحالية ديمقراطية حتي النخاع.. فإذا بعضهم يخرقون كل قوانين الانتخابات. . فيرشون ويزورون ويسودون البطاقات.. ويقف مرشحوهم علي أبواب اللجان يدفعون الناخبين لاختيار مرشحيهم ولا مانع من ان يكون موظفو اللجان من المنتمين إليهم.. يحرضون الناخبين علي اختيار مرشحيهم.. ولا مانع أيضاً من وجود بعض البلطجة وخطف الصناديق الانتخابية كما حدث في دائرة الساحل.. مما دفع بالمحكمة الإدارية العليا لإبطال الانتخابات في تلك الدائرة. في حين لم تحرك اللجنة العليا للانتخابات ساكنا أمام تلك التجاوزات وكأنها تحدث في كوالا لمبور. لا في مصر المحروسة. وكأنما ارتدي بعض هذه الأحزاب ثوب الحزب الوطني فيما كان يفعله في السابق لتزوير إرادة الأمة. يضاف لها إشاعات كاذبة ضد المنافسين قد تمس الأعراض والأخلاق. وأضيف للمشهد السابق نوعاً من التحريض الديني أيضا.. خاصة من الأحزاب السلفية التي جاهرت بأن اختيار الناخبين لمرشحيها هو واجب ديني يجب ان يحرص عليه كل مسلم .. وأن انتخاب أي علماني أو ليبرالي هو خروج علي الملة والدين. ومن يختارهم له جهنم وبئس المصير. ومما يزيد من فوضوية المشهد علي الساحة هو عودتنا إلي ردة فكرية وحضارية كان صاحبها أحد قادة السلفيين الذي قام بتكفير أدب نجيب محفوظ مرة أخري وهو أديب مصر العالمي وفخرها فهو يري أن كل أدب محفوظ.. هو أدب قليل الأدب.. ولا يري في رواياته سوي العاهرات والرقص والخمور.. وأنه من الواجب حرمة كل مؤلفات نجيب محفوظ باعتبارها تحرض علي الفسق والفجور.. ولعل محفوظ لو كان لايزال حياً - لطالبوا بإقامة حد الحرابة عليه باعتباره من المفسدين في الأرض. وليس من شك أن المشهد القادم سيكون أكثر فوضوية وأسوأ حالاً - وسنبتلي بفتاوي علي نفس الشاكلة تحرم وتكفر كل شيء في المجتمع - وتدعونا للاقتداء بالنموذج الوهابي السلفي السعودي باعتباره المنقذ وخلاص هذه الأمة من ضلالها.. وليذهب إلي الجحيم ثقافة وحضارة آلاف السنين لمصر العظيمة.. مصر التنوير والحضارة، مصر صاحبة الوعي الإنساني والوسطية الدينية التي كانت تدعو للاعتدال دائما.. والتعايش الإنساني بين كل الثقافات والأديان. ومما يزيد من مأساة ذلك المشهد الفوضوي.. هو النتيجة التي آلت إليها الثورة - وثوار التحرير وفبراير ومارس وصولاً إلي نوفمبر.. ممن سقط منهم مئات الشهداء.. ومعهم كل أصحاب القوي الليبرالية والأحزاب الشبابية الجديدة.. ممن انشغلوا بمعارك الميدان والكر والفر علي الأرض وفي الفضائيات.. فقد كان خطؤهم الأكبر أنهم تركوا الساحة خالية للأحزاب الدينية التي راحت تعمل علي الأرض وتخطط وتنسق للحصول علي الثمرة الناضجة من خلال جموع البسطاء والمطحونين الذين أختاروا أصحاب اللحي والجلباب الأبيض ولهؤلاء البسطاء عذرهم، فهم لم يروا أحدا يهتم بهم ويذهب إليهم في الحواري والنجوع والعشوائيات سواهم. حتي لو كانوا لا يحملون لهم إلا زجاجة زيت أو أكياس أرز وسكر. ومما يثير أقصي مشاعر الحزن أن أحداً من الثوار الحقيقيين ممن اشعلوا فتيل ثورة يناير.. ومن تصدوا لمدرعات النظام السابق.. ومن تلقوا رصاصات وقنابل.. ومن قدموا حتي الآن ما يقارب ألف شهيد وستة آلاف مصاب.. من المؤسف أن أحدا من هؤلاء الثوار لم ينجح في المرحلة الأولي للانتخابات، ولا أظن أن أحداً منهم سينجح في المرحلتين الثانية أو الثالثة. وخطأ الثوار الأكبر أنهم في الميدان لم يكن لهم قيادة واضحة تتحدث باسمهم.. قيادة تعرف متي تقاتل ومتي تفاوض ومتي تذهب إلي الفضائيات ومتي تقيم جسور تواصل مع بسطاء هذا الوطن لإقامة قاعدة حقيقية .. تتيح لهم تمثيل هذا الشعب من خلال صندوق الانتخابات. فكل هذا لم يحدث للأسف - وقد أدرك ثوار الميدان وكل القوي الليبرالية خطأها الكبير - ولكن بعد فوات الأوان. أما نهاية هذا المشهد الفوضوي الأليم فكان ممثلاً في وزارة الداخلية التي اسقطها الثوار في 28 يناير. ولكنها عادت بعدها كما كانت من قبل وربما أسوأ وربما غباء أو عن عمد فقد أثبتت الداخلية أنها لم تتعلم الدرس.. وانها لاتزال تري في ثوار هذا الوطن عدوها الأكبر.. فقد كان قناصو العيون والقلوب حاضرين في شارع محمد محمود ليغتالوا عشرات الشباب في مشهد متكرر لما حدث في الأيام الأولي لثورة يناير. وعلي شهداء ماسبيرو ألا يحزنوا أو يظنوا أنهم كانوا المستهدفين وحدهم.. ففي محمد محمود أثبتت الداخلية ان كل أبناء الوطن بمسلميه ومسيحييه كانوا مستهدفين.. وأن رصاص القناصة والقنابل المسيلة للدموع لا تستثني أحدا من أبناء وشباب هذا الوطن. لتحقق الداخلية بقناصيها الوحدة الوطنية التي غابت عن صناديق الانتخابات.. ولكنها كانت حاضرة في ماسبيرو ومحمد محمود.. تماما كما كان النظام السابق لا يفرق في القتل بين مسيحي ومسلم. في تأكيد علي أن شيئا لم يتغير في هذا الوطن.. وأن ريما تعود دائماً.. لعادتها القديمة.