الجميع يترقب الكيفية التي سيحسم بها الموقف. والجميع يتفقون على أن النتيجة ستحدد قدرة مصر على أن تعيد بناء الدولة في الداخل، ومكانتها في الخارج . مصر لا تزال هي الموضوع الرئيس، لعمليات تشريح سياسي، واسع المدى، لما يجري عندنا منذ 25 يناير . فلقد تعددت المنتديات والمنابر في أوروبا وأمريكا على وجه التحديد، وكان من بينها مناقشات المؤتمر القومي الديمقراطي وشاركت فيها هيلاري كلينتون، وأدارتها مادلين أولبرايت، والندوة المشتركة لمعهد بروكنجز في واشنطن مع منتدى الاتحاد الأوروبي وبمشاركة كاترين أشتون مسؤولة الشؤون الخارجية بالاتحاد، وندوات جامعة هارفارد بمشاركة أبرز المفكرين والخبراء السياسيين، وغير ذلك الكثير . وفي مختلف هذه المناقشات ساد اتفاق على القول بأن استكمال أهداف الثورة، أو تعويقها بالحيلولة دون الإسقاط الفعلي لنظام مبارك، هو الذي سيحدد ما إذا كانت مصر سوف تحتل وضعها كقوة إقليمية ودولية، أو أن هذا التعويق سيضيع عليها فرصتها التاريخية . وكان من ضمن ما قيل أخيراً في دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنه بصرف النظر عن نجاح الثورات في أي دولة عربية أخرى، فإن مصر ستكون مركز التأثير، وسيكون لنجاح أو فشل تجربة التحول الديمقراطية، نتائج بالغة العمق على المنطقة والعالم . إن التحدي الأكبر للانتقال إلى ديمقراطية حقيقية، يتمثل في الإدراك الواعي لكل من ستؤول إليه مسؤوليات الحكم والتشريع -حكومة ورئاسة وبرلمان- بأن ما جرى في 25 يناير كان ثورة حقيقية، لشعب كان قد أطيح به وبطموحاته خارج حركة التاريخ . وأنه لا يصلح أن تبنى السياسات والقرارات على مفهوم “ترميم النظام”، فما نحن فيه هو وراثة نظام قوض الدولة وشوه هويتها حين أحالها إلى كيان للربح، وقام بعملية إقصاء لأصحاب الكفاءات، الحريصين على سلامة ومستقبل وعافية وطنهم . وزرع على رأس مختلف القطاعات كل من لديه استعداد للخضوع لرغبات من بيده السلطة والتخديم على أهدافه الذاتية . وفي عهده تجمدت كل أسباب وفرص العيش الكريم، وسدت أبواب المستقبل أمام شباب يلتحق كل سنة بطوابير العاطلين والمحبطين، وتدهورت مقومات الدولة من تعليم وعلاج، وبحث علمي، وتنمية اقتصادية، ومن تكافؤ فرص التوظف والترقي، والتي عهد بإدارتها إلى جهاز أمن الدولة، حتى السياسة الخارجية كانت تدار بمبدأ التصرف يوماً بيوم، دون وجود رؤية أو استراتيجية، وهو ما أسفر عن أزمات ومشكلات مثل مشكلة المياه مع دول حوض النيل، وتراجع دور مصر الإقليمي، وغير ذلك الكثير . إن ترميم النظام يمكن أن يحسن المظهر الخارجي، لكن بنية الدولة ذاتها، تظل عرضة للتآكل . وبالحسابات السياسية فإن النظام قاد الدولة إلى خارج العصر، فتجمدت أوصالها، وتيبست قدراتها . وبالحسابات النفسية -فإن رئيس النظام مثله مثل غيره ممن يستحوذون على الحكم لعشرات السنين- قد أصيب بما وصفه علماء النفس المتخصصون في الدراسات النفسية، باضطرابات في العقل تظهر معالمه في إنكار الواقع، مهما كان واضحاً أمامه، وامتزاج صورة الدولة في ذاته، فصار عاجزاً عن التفرقة بينهما، وحينئذ يشتد لديه شعور بالجوع المتزايد للسلطة والثروة، ونهمه على المزيد والمزيد . وهذا سبب تشبث رؤساء عرب بعدم التخلي عن الحكم، حتى ولو انتهى الأمر إلى مقتلهم . إن غالبية الدراسات التي شارك فيها كبار المختصين في العالم، تتفق على أن ما جرى في 25 يناير، هو ثورة حقيقية، وأنها ستظل متجددة الطاقة، لكن هذه الحقيقة وجدت في مواجهتها مراكز معلومات وبحوث في أمريكا على وجه الخصوص، عرفت بارتباطها بالصهيونية العالمية، وتخشى أن تنهض مصر وهي مراكز لها أرصدة بملايين الدولارات تنفق على صناعتها للدعاية، وقد بدأت منذ 25 يناير تروج لمعلومات مصنوعة، هدفها التشكيك في شباب الثورة، والإيحاء بأن وراءهم جهات أجنبية . يحدث هذا على الرغم من أن كبار المسؤولين والخبراء الأمريكيين يعترفون بأن الولاياتالمتحدة فوجئت بالثورة، التي لم تتوقع حدوثها على هذا النحو، واتفق الخبراء في تشريحهم للأوضاع في مصر، على أن الثورة من صنع أسباب داخلية، وهو ما جعلها تختلف عن ثورات شعوب أخرى . إن مصر تواجه تراكماً من تحديات فريدة في نوعها، فالمعوقات أمام اكتمال أهداف الثورة تأتي أساساً من جانبين: أولهما ممن تكسبوا من المصالح والنفوذ من النظام السابق، وأيضاً ممن طمس في أذهانهم الإدراك الواعي بكيف كانت تحكم مصر، وذلك نتيجة عشرات السنين من شيوع ثقافة الترويج على أن ما هم فيه هو الأفضل والأنفع لهم، ولا خير في سواه . والجانب الثاني يأتي من قوى خارجية، ترى أن نهوض مصر من خلال نجاح ثورتها واكتمال أهدافها، سيؤثر سلبياً في مصالح هذه القوى، وأولها “إسرائيل”، بالإضافة إلى أن هناك قوى في أمريكا تخشى من نتائج الثورة على مصالحها، وسيظل صانع القرار الأمريكي عالقاً في مأزق الموازنة بين نصائح قطاع كبير من النخبة يدعو لتأييد التحول الديمقراطي في مصر، وبين الخوف من عواقبه على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة . إن تشييد بناء جديد للمستقبل فوق أركان متداعية، هو الخطر ذاته على المستقبل . فالنظام الساقط، كان معدماً من أي رؤية سياسية أو استراتيجية أمن قومي . وإن ما تحتاجه الحكومة المقبلة أن تكون لديها رؤية واضحة محددة للمستقبل، وأن تبادر بوضع خطط قصيرة الأجل لإنعاش المناطق المهيأة لاستثمار إمكانات الدولة المعطلة والمهدرة، والتي تشعر المواطن بأن تحسناً طرأ على حياته، وأن تعمل في نفس الوقت على وضع مشروع قومي طويل الأجل ينهض بالبلاد، بمختلف مرافقها . إن الدول -بما فيها المتقدمة منها- تدرج ضمن استراتيجيتها للتغيير والتقدم، ما تسميه عنصر “كفاءة الحكومة” . فإدارة الدولة تحتاج إلى العقل السياسي، الواعي بالواقع الحالي في مصر وكيفية الخروج منه، وبفهم التحولات الجارية بمعدل سرعة إيقاع العصر، سواء بالنسبة للمزاج القومي للمواطن في الداخل، أو للتغيرات والتحولات في الأفكار والنظريات والسياسات التقليدية في الخارج .