ليعذرني القارئ إن تلعثم القلم قليلا أو كثيرا عند كتابة هذا المقال ، فأنا أكاد الملم الأفكار وأستجمع الكلمات إذ أصبح الكلام عن ميدان التحرير كمن يمشي حافي القدمين فوق الأشواك . أعذرني عزيزي القارئ مرة أخرى فلن أستفتح حديثي عن ميدان التحرير بأغلظ الأيمان كي أثبت أني كنت هناك وسط الشبان وسط العجائز والغلمان فهذا شرف لم أناله ، ولن أعرض صورا لي فوق الدبابات وسط الجند وانا ملفوف بالأعلام كي أزعم لنفسي بطولات ، كما أني لن أقدم الذبائح والقرابين عند الاقتراب أو الحديث عن الميدان إذ اني لست ممن نالوا شرف الزيارة أو المبيت ...كما أنني "والله العظيم " لا أعرف لي صديقا أو جارا أو قريب نال هذا الشرف كي أتمسح به .... ولكني أشهد الله أني مسلم مصري أحب بلدي غير أني مصري لم يذهب للميدان . في الشتاء الماضي تمنيت لو أني كنت هناك بالميدان لكني كنت بعيدا مئات الأميال فالكل ساعتها كان سواسية وكان طريق الجنة مفتوحا دون الحاجة إلى صكوك غفران والكل كان ينادي بكسرة خبز أو شربة ماء وكانت أقصى أمانيهم تحسين ظروف العبودية ولكن الله أبى إلا أن يمنحنهم كل الحرية . وبعد يناير اصبح كل من يدخل التحرير فهو آمن رغم المواقف الرسمية وغير الرسمية التي كانت تندد وتشجب الخروج إلى التحرير . فالجيش هرع الى التحرير ليثبت ربما ليتلحف بعباءة الثورة وليبعد عن نفسه أحاديث السوء بأنه مناهض لها ، الأزهر أكد على انه لم يكن يعلم أنها ثورة أو أن الأمور سوف تؤول إلى ما آلت إليه وأنها سوف تكون بشكل سلمي ولذلك كانت فتواه الأولى بحرمة التظاهر والخروج إلى الميدان ، وسرعان مالحقت بهم الكنيسة فبعد أن حث البابا أتباع الكنيسة إلى عدم الخروج والتظاهر وعدم الانصياع وراء الثورات إلا أن بعد الثورة كل شيء تغير فالكنيسة نفسها حثت رجالها على الخروج والتظاهر ولكن هذه المرة في ميدان مبنى ماسبيرو . سارع الكثير من المرتزقة في الإعلام والغناء والتمثيل وبعض رجالات الدين والأحزاب إلى إجراء عمليات تجميل ثورية فورية تناسب طقوس الميدان فأخذوا يحجون زرافات إلى التحرير ويلتقطون الصور وتبح أصواتهم بالهتافات خلف الشاشات ووراء الميكرفونات فلابد للجميع اليوم أن يشري نفسه بصكوك الغفران ليحجزوا لأنفسهم أرائك في جنات الثورات عبر منافذ البيع بالتحرير فمن لم يعفر اقدامه بترابه فليس ثائر ولا هو بناج . ولكنهم واهمون فليس كل من دخل التحرير حاز شرف الثوار وليس كل من بقي بعيدا خائن كافر بالأحرار فالتاريخ والثورات من نتائجها كشف السوءات وإزاحة اللثام عن المنافقين وسارقي جماجم الشهداء ، فاليوم هناك مناضلون من ورق يكتبون بأقلام من رصاص يتوجه واحد منهم إلى ميدان التحرير ليحمل على الأعناق ، لكن يبدو أن ثوريتهم مزيفة منذ أن تحدث سجين سابق في السجون الناصرية في أحد البرامج الوثائقية ليكشف لنا كيف أن أحد هؤلاء أُتي به من زنزانته في السجن ليبث اعترافاته في برنامج يعده ذلك الصحفي، لكن هذا الأخير غضب لأن السجين الذي اختاروه تظهر على وجهه آثار التعذيب وطلب سجيناً آخر لا تبدو عليه علامات التعذيب، أي أنه كان جزءاً من آلة التعذيب والنفاق ، أما الآن فتحول إلى مناضل في سبيل الحرية ومن الثوار الأحرار . ما يحزنني ليس الخروج إلى الميدان فقد كان عنوانا للرجال ومسرحا للثوار وكل من كان ينشد الحلم الوردي بالتحرر من الظلمة والخروج إلى النور حتى لو كان الثمن الروح وأغلى ما يملك الإنسان ، كان كل ذلك بلا صكوك أو وعود بالغفران واليوم بات الميدان كحانوت يتاجر فيه البعض بدماء الشهداء وفي ركن بعيد عن الأنظار الميدان أرى الثوار الحقيقيون يتوارون عن المشهد بعد أعمت أضواء الكاميرات الأعين والقلوب وبقي في الصورة كبار السراق . عزيزي ليس كل من بالميدان ثائر وليس كل من بالميدان تاجر فهناك ثوار من خارج الميدان وهناك تجار في خارج الميدان فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء الذين لايشترون بصكوك الغفران ويكون موقفك وفعلك كل لله ولايهمك إن ظهرت صورتك في النهاية من داخل الميدان أم خارجه فهناك ثوار بلا ميدان .