- ماما.. نفسى أشرب عصير «مانجة». هتف بها «أنس» متعلقاً بذراعى أمه، التى ضحكت فى جذل هاتفة: - روح قلب ماما. ثم ضمته إلى صدرها بحنان، وربتت على ظهره قائلة: -عندما تنتهى من درس القرآن وتعود سيكون عصير «المانجة» فى انتظارك. قالتها، وعادت تحتضنه فى لهفة جعلتها تحس بقلق خفى، بينما أسرع هو يبتعد عنها ويلتقط مصحفه هاتفاً وهو يشير إليها مبتعداً: - لقد تأخرت عن الدرس يا ماما.. مع السلامة. ابتسمت له مودعة، ثم لم تلبث أن أجفلت وقد أحست بانقباض قلبها وغمغمت: - خير يا رب.. خير. *** ارتعد صوته من شدة انفعاله وراح يصرخ: - من أين لى بكل هذا المبلغ.. ألا ترى ما أنا فيه من فقر؟ أمسك بذراعه فى عنف ونظر إلى عينيه بحدة صائحاً: -لا شأن لى بهذا.. فإن فقرك هذا لم يمنعك من أن تستدين، لتشترى ما تتعاطى من مخدرات. ثم أمسك بذراعه الأخرى هاتفاً: - والله يا «يحيى» إن لم تعد لى المبلغ كاملاً هذا الأسبوع لأقدم ما لدىّ من شيكات إلى النيابة، ولتخبرهم إذن بفقرك هذا. لم يكد ينتهى من حروف كلماته حتى أفلت ذراعيه فى قسوة واستدار مغادراً صافعاً الباب خلفه، بينما زفر «يحيى» فى غضب، ملوحاً بذراعه وأخذ يدور حول نفسه فى حيرة بائسة، ثم لم يلبث أن غادر البيت كله إلى الشارع، وإحساس بالقهر يسكن عينيه. *** نظر «أنس» إلى ذلك الرجل الملثم الواقف أمامه فى دهشة وسأل فى فضول: - من أنت.. ولماذا تخفى وجهك هكذا؟ أشاح الرجل بوجهه عن عينى الطفل المتفرستين، وقال فى صوت حاول أن يخفى نبرته الحقيقية: -أنا لست من تلك البلدة.. وأريدك أن تذهب بى إلى منطقة المسجد القديم. عادت الدهشة لتعلو وجه الطفل وسأل فى لهجة تخطت سنواته الثمانى: -ولماذا تلك المنطقة بالذات.. إنها منطقة مهجورة، فماذا ستفعل هناك؟ زفر الرجل فى ضيق، وأمسك بذراع الطفل هاتفاً: -إن أحدهم سيقابلنى هناك وقد تأخرت عليه.. وأريدك أن تصحبنى. قالها وجذب الطفل الذى لم يجد بداً من الذهاب معه وهو يهز كتفيه فى استسلام مدهش. *** أخذت تذرع الحجرة جيئة وذهاباً، وهى تفرك كفيها فى قلق وتوتر واضحين، ثم هتفت فى عصبية: -فلتفعل شيئاً يا «حسين»، إن ابنى لم يتعود على التأخر كل هذا الوقت فى درس القرآن.. لماذا لم تسأل عنه الشيخ؟ مط «حسين» شفتيه فى أسف وأطرق متردداً، ثم حسم أمره قائلاً: -لقد فعلت يا أم «أنس»، وصاحت تقاطعه: - وماذا قال لك؟ تكلم. أشاح بعينيه عنها قائلاً بحزن: -إن «أنس» قد انتهى من درسه منذ ساعتين ولا يعرف أحد أين ذهب. ضربت صدرها بكفيها صارخة: -ابنى.. أين ذهب.. أين ذهب؟ ارتفع رنين محموله لينتزعهما من حزنهما، فتتحول نظرة القهر بعيونهما إلى نظرة لهفة وترقب: -من؟ لحظة صمت تخيم على المشهد، بينما يصغى «حسين» إلى محدثه الذى أسرع ينهى المحادثة قبل أن يتلقى رداً من «حسين». -ماذا حدث؟ تسأله زوجته فى قلق، ينظر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع، ثم ينهار على أقرب مقعد، متمتماً: - لقد خطفه أحدهم ويطلب 2 مليون جنيه فدية. *** - لماذا تفعل بى ذلك.. ماذا فعلت لتقيدنى فى هذا المكان الغريب.. ألم أرشدك إلى المكان الذى سألتنى عنه، فلماذا تعاقبنى؟ صاح الرجل فى حنق: - كفاك ثرثرة أيها الصغير.. لقد صدعت لى رأسى. ثم نهض مغادراً المكان بأكمله، فصرخ «أنس»: - لا تتركنى هنا وحدى يا عمو.. فأنا أخاف من هذا البيت المهجور. لم يلتفت إليه وكأن توسلات الصغير لم تصل إلى سمعه وواصل سيره نحو الخارج، فأغلق «أنس» عينيه فى رعب، وكأنه يدفن بين جفنيه ذلك الخوف الذى أحاط به، ثم أخذ يتمتم فى لهفة بضع دقائق، حتى قاطعه دخول الرجل عليه صائحاً: - بماذا تتمتم أيها الصغير؟ فتح الطفل عينيه فى جزع، وقد فاجأه صوت الرجل وأجابه خائفاً: -إننى أقرأ بعض آيات القرآن حتى يزول خوفى مثلما علمنى الشيخ. قطب الرجل بين حاجبيه وجالت عيناه فى وجه الطفل فى دهشة، ثم تنهد فى ضيق، وأمسك بهاتفه قائلاً: -فلأتصل بأبيك ثانية لأحدد له... لم يكمل عبارته، فقد انزلق هاتفه من بين يده ليسقط أرضاً، فقفز فى لهفة محاولاً التقاطه قبل أن يصل للأرض... لكن تلك الحركة المفاجئة منه جعلت لثامه ينزاح عن وجهه كاشفاً عنه، ليهتف «أنس» قائلاً: -عم «يحيى» أهو أنت؟! اتسعت عينا «يحيى» فى ذهول وغضب عندما عرفه الطفل، بينما أخذ الأخير يردد: -لماذا تفعل بى هذا يا عمو.. ألست جارنا، وقد قال لنا الشيخ إن الرسول قد أوصانا بالجار و... صرخ فيه «يحيى» وهو يهجم عليه ويمسك بذراعه بقسوة جعلت «أنس» يتألم: -كفاك ثرثرة.. لقد أفسدت كل شىء ولن أستطيع أن أنفذ ما أريد. ثم استطرد وقد تراقصت فى عينيه نية شر: -ولكننى لا أستطيع الاحتفاظ بك أكثر من ذلك، فقد عرفتنى. ثم راح يفك قيوده، بينما لم يكد «أنس» يرى يديه وقد حررتا حتى أسرع يلتقط المصحف من الأرض ويمسح عنه التراب الذى اعتراه. صرخ «أنس» متألماً، وقد طرحه «يحيى» بعنف ليسكن تلك الحفرة، ووقف الأخير ممسكاً بفأس بكلتا يديه فى تحفز، فصاح الطفل باكياً: -لماذا ألقيت بى هنا.. أنا لم أفعل لك شيئاً.. لم أفعل... قاطعه صراخ «يحيى» فى هيستيريا، بينما أخذ يهيل التراب داخل الحفرة بفأسه فى شراسة: - أيها الغبى.. سوف أقتلك لأتخلص من نحسك علىّ. ثم توقفت ذراعاه فجأة، عندما أبصر المصحف فى يد «أنس» فمد يده لينتزعه منه إلا أن الطفل احتضن المصحف إلى صدره فى إصرار، فصاح فيه «يحيى»: - هات هذا المصحف.. فسوف تدفن هنا ولا يجب أن يكون معك. ازداد تمسك «أنس» بالمصحف وضمه إلى صدره أكثر وهو يهتف منتحباً: -لن أتركه لك.. إنه مصحفى أنا وسوف يظل معى. عقد «يحيى» حاجبيه فى غضب، ثم لم يجد سوى الاستسلام لرغبة الطفل واستمر فى ردمه. تكوم «أنس» محتضناً مصحفه فى ركن الحفرة وراحت شفتاه تتمتمان بآيات قرآنية، بينما جسده يرتعد فى رعب وقد أغرقت الدموع وجهه الصغير واختلطت بالتراب الذى كاد يغطى عنقه زاحفاً نحو رأسه فى غير رحمة. ولم يشفع ضعفه لدى ذلك الشيطان الذى لم تردعه دموعه وانتحابه فاستمرت فأسه تنهب الأرض وتهيل التراب على الجسد الصغير حتى لم يكد يبدو منه شىء و... ودفن صوت بكائه للأبد. عينان صغيرتان تراقبان المشهد من بين أنقاض البيت، وقد ملأهما خوف طفولى، فنسى «زياد» كلبه الذى كان يطارده بين الأنقاض المهجورة، وأسرع يعدو مرتعباً وهو يردد: عمو «يحيى» دفن «أنس».. ***