بعد لحظات من إعلان وكالات الأنباء عن محاولة انقلاب نفّذها فصيل من الجيش التركي، للإطاحة بالرئيس المنتخب رجب طيب أردوغان، إلا وبدأت التلفزة العربية في نقل متقطع نقلاً عن وكالات عالمية وشبكات تلفزيونية مثل cnn وbbc وقنوات أخرى، قبل أن تفرد مساحات واسعة للتغطية المباشرة. وقتها غرّد أحد الإعلاميين في «تويتر» قائلاً: «الجيش خرج لخدمة الشعب»، وقتها كانت الأخبار متضاربة وغير واضحة المعالم عما يحدث في تركيا في الساعات الأولى من الأزمة، وقتها كانت القنوات العربية بدأت في التغطية المباشرة مع محللين عرب، وخصصت معظم نشراتها وبثها لتغطية الأحداث. من تابع التغطية التلفزيونية للقنوات العربية وطريقة تحليلها سيعرف أن قراءة الأحداث لم تكن حاضرة لدى معظم الضيوف الذين خرجوا للتحليل، بل حتى الصورة المباشرة في تحليلها كانت غير واضحة، سواءً في التعليق عليها أم تفسيرها. الكثير من المحللين ذهب في تحليله إلى أن مشهد الربيع العربي يحضر من جديد من خلال استيلاء الجيش، بعضهم شطح بخياله إلى أحداث مصر وتونس. من خلال متابعتي تغطيات القنوات العربية، وأقصد هنا القنوات الإخبارية الخاصة وليست الحكومية، الكثير منها على رغم تجربتها في تغطية الحروب والأحداث، إلا أنها كانت مرتبكة في تغطيتها لما حدث في تركيا، وبعضها كانت تمني نفسها أن الأزمة تطول أو يخرج المواطنون تأييداً للجيش الذي نفّذ الانقلاب، لكن استعدادها للتغطية كان ضعيفاً، حتى الأخبار العاجلة الواردة معظمها كانت غير صحيحة ومخالفة للأحداث على أرض الواقع. سأل مذيع أحد ضيوفه إن كان الرئيس التركي رجب أردوغان سيظهر ليدلي بحديث للشعب أم أنه سيبقى مختفياً عن الأنظار، فيرد الضيف أن الرئيس التركي هرب إلى الخارج، وسيعلن الجيش خلال ساعات بيانه الأول وإعلان تشكيل حكومة جديدة، في هذه الأثناء ظهر الرئيس التركي ليتحدث إلى إعلامية تركية عبر الهاتف النقال، ويطلب من الشعب الخروج إلى الشارع للتصدي للانقلاب، في الوقت الذي كانت فيه القنوات العربية تنقل أخباراً من وكالات متعددة عن الوضع على أرض تركيا من انفجار ضخم في مطار إسطنبول، وطائرات تطلق صواريخ على حشد من الناس، وإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها، كان الآلاف من الأتراك يصوّرون بهواتفهم النقالة ويبثونها من خلال البث المباشر على «فيسبوك» ومواقع التواصل الاجتماعي، لم يعد الناس بحاجة لمتابعة نشرات الأخبار والقنوات الفضائية. اليوم هناك مئات المراسلين الذين يصوّرون ويرسلونها على هذه المواقع. في قناة عربية أخرى، جلس الضيفان طوال التغطية المباشرة لربط ومقارنة الأحداث المصرية بما يحدث في تركيا، إضافة إلى تحليل عقيم بأن الجيش خرج تلبية لنداء الشعب، لأن أردوغان أعاد علاقاته مع إسرائيل وروسيا، وآخر يقول إن الرئيس التركي سيلقى مصير معمر القذافي، حينما رأى صورة أردوغان وهو في الشارع وسط أنصاره قبل أن يلقي كلمته في مطار أتاتورك، وتحدث هذا المحلل أن نهاية الرئيس التركي اقتربت. الواقع أن التغطية الإخبارية للانقلاب الفاشل في تركيا كانت تنقل بعقلية عربية، اعتماداً على واقع الربيع العربي، وليس من واقع المجتمع التركي الذي عاش تجربة الانقلابات في العصر الحديث أكثر من خمس مرات؛ بدءاً من أيار (مايو) 1960 حينما قام 38 ضابطاً برئاسة الجنرال جمال جورسيل بالسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، وجرّ ذلك الانقلاب بعده ثلاثة انقلابات عسكرية أضرت بالحياة السياسية والاقتصادية بالبلاد، وكبّدتها خسائر غير مسبوقة، وبعد الانقلاب الأول ب11عاماً، جرى تنفيذ انقلاب عسكري ثانٍ في 12 آذار (مارس) 1971، وعُرف باسم «انقلاب المذكّرة»، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلاً من الدبابات، كما فعل في الانقلاب السابق. وحصل انقلاب «كنعان إيفرين» في 12 أيلول (سبتمبر) 1980، الذي أعقبته حالة قمع سياسي غير مسبوقة، عام 1997 حدث ما سمي بالانقلاب الأبيض على حكومة «نجم الدين أربكان» أو ما عرف ب«الانقلاب ما بعد الحداثة» بعد وصول حزب الرفاه إلى السلطة. كل الإيحاءات والتحليلات ما كانت تتحدث بواقعية عمّا يحدث في تركيا، بل كانت فرصة للنيل من حزب العدالة والتنمية وأن الانتخابات التي فاز فيها الرئيس التركي حصل عليها باحتيال، وأنها لحظات وسيتحد الجيش والشعب ضد الرئيس، لم تمضِ ساعات على الحادثة وإلا مواقع التواصل الاجتماعي تكاد تنفجر من الكم الهائل من التحليلات السياسية التي كانت تبث في هذه المواقع، ولكن سرعان ما بدأت الأمور تتضح، حينما خاطب الرئيس أردوغان شعبه من خلال هاتف نقال وخرج إلى الناس، وذهب إلى إسطنبول ووقف بين أنصاره، وبثت القنوات الفضائية كيف أن الشعب استجاب للديموقراطية ولحقوقه المكتسبة في رئيس منتخب، وخرج الناس إلى الشارع ليقفوا في وجه الدبابات وأفراد الجيش. هذه الصورة كانت صادمة لكثير من المحللين العرب، خصوصاً من تأثروا منهم بالربيع العربي وسماع الهتافات، لم تمضِ لحظات حتى وصل أردوغان إلى مطار أتاتورك ليلقي كلمة إلى شعبه ويشكرهم على وقفتهم وتعاونهم مع الديموقراطية. ربما الأحداث تتشابه في بعض البلدان، إنما ليس بالضرورة أن تكون صورة مستنسخة، فقراءة الواقع وتسلسل الأحداث مطلب مهم في التغطيات الإعلامية، وتحتاج إلى اختيار محللين يتحدثون بواقعية ولديهم عمق سياسي، الشيء الجديد في أحداث تركيا أن التقنية والتطبيقات الذكية في الهواتف ساعدت في إعطاء صورة من أرض الواقع مباشرة، وأيضاً أعادت الحرية إلى الشعب التركي، ووضعت العالم على الصورة الحقيقية لما يحدث في تركيا. نحن في عصر لا يمكنك أن تكذب وأنت تحت الضوء. نقلا عن صحيفة الحياة