كانت أزمة الرئيس المؤمن أنور السادات كبير العيلة المصرية والسؤال المُلح عليه: ما العمل مع الشباب الناصري، والحزب الشيوعى الذى يعمل عبر خلايا سرية يراها تتوالد مُحرضة عمال مصر فى المحلة وحلوان وكفر الزيات، وداعمة للمد الثورى فى الجامعات.. شباب عنيد معارض يُغنى ويمثل ويكتب على مجلات الحائط رافضاً الاستسلام المصرى والعروبي، ولازال يتحدث عن القومية العربية، والزعيم الملهم يريدها مصرية إسلامية خالصة بلا عروبة بلا قومية وكلام فارغ.. إنها مصر المؤمنة التى رآها فى وادى الراحة حيث مجمع الأديان فى سيناء، وتمنى الرجل أن يُدفن هناك ليرتاح من الدنيا وبلاويها!! لقد عانى الناس فى بلادى فى أوائل السبعينات إحباطات هزيمة يونيو 1967، والوعود الرئاسية المتكررة بإزالة آثار العدوان، وعودة الأرض والحياة الطبيعية ولا شىء يحدث!!..وتتراجع الأغانى الشعبية الطربية البديعة لقمم الأغنية الشعبية..العزبى ومحمد رشدى وكارم محمود، والمصرى الأصيل محمد قنديل، إلى أغانى الطشت قاللى والسح الدح إمبو والعتبة جزاز.. إلخ، اختفاء مسرح وسينما الستينات، وتراجع دور الكتاب والحركة النقدية.. وعليه كان الحل السحرى الذى تفتق عنه فكر الزعيم، عندما تذكر أصدقاء الأمس فى زمن ثورة يوليو المجيدة وأصحاب الفضل والمشورة والدعم، فقام بدعوة أهل الإسلام السياسي، وفتح لهم الجامعات والمصانع وهم كانوا وكما عهدنا فيهم الجاهزية والاستثمار الأمثل للظرف التاريخي، فانتشروا فى كل مواقع خوف السلطان حتى إذا ما انتهوا من الإجهاز على كل فكر معارض سواهم، أجهزوا على السلطان ذاته فى مشهد مأسوي، ولكن ولله الحمد بعد انتصاره فى معارك الحرب والسلام!! ومع السلطان الجديد عشنا زمن المتاهة، وسألنا ولم يأتنا الجواب: هل نعيش فى ظل دولة مدنية أم دولة عسكرية؟.. هل دولة العلم والإيمان مازالت ملامحها على الأرض المصرية أم بلطجية العلمانيين قد نالت من ثوابتها؟.. هل هى دولة العدل وسيادة القانون التى حدثنا عنها الرئيس المؤمن أم هى دولة الفساد والبلطجة؟ الأسئلة كثيرة ولكن تبقى الحقيقة المؤكدة أنها دولة بلا طعم ولا رائحة ولا لون.. دولة على ما تفرج وقابلنى لو فهمت إيه اللى كان بيحصل سوى أن الناس قد غابوا عن مشهد الوطن.. وكان أن خلعنا بفعل ثورة 25 يناير حسنى مبارك، وأغلقنا ملف التوريث، وتم حل مجلسى الشعب والشورى، وباتت مدة الرئاسة 4 سنوات تُجدد مرة واحدة، تعديل المواد المشبوهة فى الدستور، عودة الإيجابية للشارع المصرى والتى تجلت فى قمتها فى الاستفتاء،فتح ملفات الفساد، بدء محاكمات كبار المسئولين، حل جهاز أمن الدولة، انتخابات جديدة لمجلسى الشعب والشورى، انتخابات جديدة للرئاسة، دول العالم الحر تعظم قدر ثورتنا..أيضاً انفض الشباب إلى حد كبير عن العشق المريض الملتاع عن شباب المغنى الذى نجح فى سوق الأغنية الركيكة بفضل كثافة شعر صدر أهل مغنى زمن العباطة والهروب من التجنيد وقبلات الحُلويات حتى الإغماء والسخسخة، والتقاط دباديب المراهقات، والقفز على مسارح السلطان، والانصراف عن هموم الوطن ونكده ومآسيه، والأهم نزعهم الوطنية عن رموز الطرب الكبار، بل واتهام من سبقوهم بالغباء السياسى والتراجع الإبداعي.. وصولا إلى اتهامهم الأكثر بشاعة لثوار يناير بالعمالة لمنظمات أجنبية، ودعمهم حملة شعار «آسفين ياريس»، فكان الطرد من ميادين التحرير.. ميادين الرجال!! وعن وزارة الإعلام، ليس لدينا ما نقول أو نفعل سوى أن نتشارك جميعاً فى الدعاء إلى المولى القدير أن تختفى من الوجود المصرى وزارة الريادة التعبيرية، وصاحبة الأداء الكارثى خلال أيام ثورة يناير المجيدة وحتى يوم الأحد الدامي، فميراث الوزارة والتليفزيون بشكل عام وقطاع الأخبار بشكل خاص ميراث ثقيل من الأداء الموجه الساذج التقليدى الخالى من الإبداع، ورفض السعى يوماً لمناصرة حقوق المواطن المصرى فى إعلامه والإعلام عنه، ومراعاة مصالح الوطن العليا، والأمل فى المقابل أن تتجاوز القنوات الخاصة المصالح الخاصة بمالكيها، أو التوجه الأيديولوجى من جانب من يديرونها لدقة وخطورة الظرف التاريخى لتجاوز كل مراحل الخطورة لبلد قام مواطنوه بثورة أسقطت بها رموز النظام، ولكن أذناب الشر وثعابين الفتنة يلملمون صفوفهم ويحتشدون دفاعاً عن دولة الظلم والفساد التى لم تسقط أعمدتها بعد! لاشك أن المتلاحظ فى كل عهود تراجع دور الدولة، تتراجع الفنون وآليات دعم العمل الثقافي، يطفو على السطح شرائح من بشر متراجعة قيمهم ومفاهيهم ومعارفهم وثقافتهم.. فى عهود التراجع يتقدم الصفوف دعاة التعصب والطائفية والفكر العنصري.. فى عهود التخلف يتم فرز وتقديم نماذج من البشر ضاع بينهم الإيمان بأنهم يعيشون فى وطن تحكمه نظم وقوانين.. فى أزمنة الضياع والتهافت الوطنى يُعلن المتطفلون عن وجودهم، وتعلو هامات أصحاب الفكر الغيبى فيقدمون للناس وصفات السعادة والتعايش مع أوهام الخلاص من أوجاع وبشاعات أهل الدنيا.. وعقب ثورة كان فى طليعتها شباب مثقف، ولديه خبرات فى عالم الاتصالات والتواصل المعرفى والإنسانى والاجتماعي.. غريب أن نعيش هذه الحالة من التراجع الإعلامى والثقافى فى مرحلة كان المتصور أن تموج بحالة توهج ثقافي، فإذا بنا أمام حالة موات فكري، بل والسماح (على سبيل المثال) لأن يضم قمر النايل سات عدة قنوات تليفزيونية للأغانى والفنون الشعبية الهابطة، وفى مقدمتها قناة «التت».. نعم هذا اسمها وهى قناة تتيح للمواطن المصرى الاقتراب من عالم الرقص الشرقى على اعتبار ساعة الحظ ما تتعوضش، فما بالنا إذا كانت القناة معنية بشكل حصرى بعرض متواصل على مدى 24 ساعة لإنجازات راقصات مصر الإبداعية، مفاتنهم التى تتنوع سبل عرضها وصولاً إلى ما أشارت إليه الفنانه سهير البابلى فى مسرحيتها الشهيرة إلى إجادة فنون «القصعة والرعشة والنزلة».. ولا تظلموا أهل فن الرقص الشرقي، فهم يرون أنه احياء للروح واظهار لجمال الطبيعة وهو فن كباقى فنون الرسم والنقش والموسيقى فن يتشكل على جسد يتحرك بكامله فعلا انه ترويح للنفس من هم الدنيا وغمها يا دعاة الانغماس فى النكد.. إنها ثورة «التت» ياشباب يناير العظيم!!! إنها القناة التى رفعت شعار «خلوا الرقص معلمة فى عصر العولمة».. إنه حل جديد لا يختلف عن حل الرئيس المؤمن فى مواجهة اليسار اللعين، ولكن هذه المرة فى مواجهة التيارات السلفية المتشددة إسلامية ومسيحية، وبعد ورطة السماح بوجود أحزاب دينية مسيحية وإسلامية بوهم أنها أحزاب سياسية ولكن بمرجعية دينية!! ويا من يزعجكم صيحات وفتاوى شيوخ السلفية فى قنوات التشدد والطائفية، ويامن يضيق صدرهم بعظات وخطب زكريا بطرس فى قنوات الخروج عن المسيحية، لا تجزعوا ولا تخافوا فقد يكون الحل بموافقة حكومة يناير على بث قنوات المولد وشعبيات، والأهم قناة «التت».. إنها قنوات الأسرة المصرية اللذيذة التى لن يغادرها ريموت كنترول رب الأسرة فى أزمنة النكد الثوري.. وتعالوا نردد «يا حلو يا لابس التوب أنا بدى اتعلم على ايدك» و«عليكى هزة وسط والبصة ليكى تجيب انهيار» و«ياللى وسطك زيه مافيش، وسطك بينقط حنية» و«دخلتى قلبى ما طلعتيش، كل حته فيه بتدعيلك».. ولك الله يا مصر!!