إشراف: سامي صبري الحياة وسط الدراويش لها طعم تانى.. ومذاق مختلف.. ساعات معدودة معهم كفيلة بأن تعيش فى عالم آخر.. عالم مجرد من كل أمتعة الدنيا وشهواتها.. ليس فى قلوبهم غل ولا حقد.. فقط.. الاقتراب منهم يجعلك تنسى بيتك وعملك وربما نفسك.. وإن قضيت معهم أياماً وليالى لا تشعر بالجوع ولا تظمأ.. لأنك ببساطة سيصل رزقك حيثما كنت.. هم.. بشر مثلى ومثلك.. ليسوا مختلين عقلياً.. بل أغلبهم أوتى من الحكمة قدراً كبيراً.. ولا يمكن تصنيفهم ضمن المرضى النفسيين.. لا يوجد بينهم وبين من ينشدون فى الزار أو حلقات الذكر أو بالموالد والمناسبات الدينية أى علاقة.. إنهم مختلفون تماماً.. تحسبهم مجانين ولكنهم عقلاء.. إنهم دراويش الحسين.. لا يفكرون فى مال ولا بنين.. ولا يعنيهم ملبس.. ولا مأوى.. ولا يبحثون عن فرصة عمل.. ولا يشغل بالهم سياسة، ولا تليفزيون، ولا غلاء أسعار، ولا أموات ولا أحياء.. وإن أصابهم مرض يتعايشون معه فى حب ورضا واستسلام.. وراء كل منهم لغز محير جعلهم يزهدون الدنيا ومن عليها. فى رحاب "الحسين" "أم خالد" شافت ربنا.. و"رضا" فى ملكوت الله.. و"بدرية" تنتظر الحاجة الساقعة خمس ساعات كاملة قضيتها داخل مملكة الدراويش.. أسقطت عن وجهى قناع نفسى، وتقمصت دوراً لم ألعبه من قبل، فقبل أن تطأ قدماى ساحة سيدنا الإمام الحسين رضى الله عنه، ارتديت جلباباً أسود، وشكلت خطواتى بانحناء ظهرى، وأقنعت نفسى بأننى سيدة «طفشت» من زوجها وأولادها لكثرة المشاكل، وانعدام الدخل، ونظراً إلى عدم وجود أهل أو أقارب فلم تجد أمامها سوى الهروب من بيتها لتجد نفسها فى رحاب «الحسين». ولو لم أفعل ذلك لما استطعت أن أخترق هذه المملكة، وأتعرف إلى أدق تفاصيلها اليومية، وأكتشف أسراراً جديدة لم تعرف من قبل. للدروشة أصول وقوانين، فإذا رغبت أن تكون درويشاً «مدروش» فعليك تطبيق شروطها وأحكامها، قبل كل شىء يجب أن تنضم إلى صفوف الزاهدين والمتصوفين وتتظاهر بالفقر والتقشف، وأن تعيش مثلهم على إحسان الآخرين، وأن تتخذ باب التسول للتدريب على البساطة والتواضع، والابتعاد عن التملك المادى. ومن المهم جداً ألا تتسول لنفسك فقط، أو لأغراض ذاتية، فعليك التبرع بكل ما تحصل عليه إلى فقراء آخرين. ثالثاً: أن تكون فقيراً بسيطاً تدور من دار لدار طالباً الإحسان. وأخيراً عليك أن تعى جيداً أن «الدروشة» فى الصوفية هى أولى درجات الترقى فى التطور الروحى. «هى القاعدة هنا جايبة تمنها؟»! يعنى حد بيدى فلوس والا الواحد يروح يقعد فى حتة تانية، من هذا السؤال كان مدخل تعارفى على الدراويش، فلكل منهم حكاية لا تخطر على بال بشر. فى عالم تانى يعيشون، لا تعنيهم هموم الدنيا، ولا يفكرون فى وجبة دسمة تملأ بطونهم الخاوية، حتى الفلوس لا قيمة لها إذا كانت أو لم تكن. «الدراويش» حالة منفردة عن باقى خلق الله. «فى انتظار حاجة ساقعة» من أمام المدخل الرئيسى للمسجد، لمحت فتاة إذا نظرت إليها شعرت بقوة وصلابة وشجاعة، وإذا تحدثت معها أيقنت أنها بنت جدعة وكريمة، وبميت راجل، وإذا اقتربت منها انفضتَّ من حولها؛ بسبب ملابسها الرثة، وشعرها المنكوش الذى يفوح منه عبق الشارع وما يحمله لها من قاذورات، شفتاها يغلب عليهما اللون الأبيض الباهت متشققتان عطشاً وجوعاً.. جلست بجانبها ودار بيننا الحوار: أنا: القعدة هنا جايبة تمنها؟ هى: يعنى إيه؟ أنا: يعنى حد بيدى فلوس والا إيه النظام؟ هى: قولى يا رب.. ومتطلوبيش من حد حاجة. أنا: يارب.. هى: انتى مالك؟ أنا: طفشانة من جوزى وسبت البيت ومشيت ومش راجعة تانى. هى: أحسن كل الرجالة ولاد..... أنا: اسمك إيه؟ هى: بدرية. أنا: طفشانة برضه من جوزك؟ هى: لا أنا متجوزتش، أنا عندى 17 سنة لسة بنت بنوت. أنا: طب إيه حكايتك؟ هى: أنا طفشت من إخواتى، أبويا وأمى ماتوا، وأمى قالت بعد ما أموت حتتفرقوا، وفعلاً اتفرقنا. أنا: وبعدين إخواتك تركوكِ. فسبت إخواتها بألفاظ نابية، وقالت: أنا اللى سبتهم وعرفتهم إنى رايحة الحسين، ومحدش يدور عليَّ، ولا يسأل عنى.. وبقالى هنا 4 شهور. أنا: طب عايشة إزاى؟!! هى: أنا مبسوطة جداً وسعيدة وكمان شوية بعد الفطار حجيب حاجة ساقعة وحجبلك معايا انتِ معاكِ فلوس. أنا: ولا مليم. هى: ما تحمليش هم.. بعد الفطار هاجبلك حاجة ساقعة، ونشرب تمر هندى وعرقسوس وننبسط آخر انبساط.. انسى الدنيا. أنا: طب أنتِ معاكِ فلوس؟ فتحت قبضة يدها المتسخة وقالت: أهو معايا.. ورأيت فى يدها عشرين جنيهاً مجمدة وجنيهاً فضياً. أنا: طب انتِ عايشة إزاى وممعكيش أى ملابس؟ ردت بقوة وصوتها يميل إلى صوت الرجال: هو أنا شوية.. وأنا معايا حصيرة وبطانية وبرش، متخافيش عليَّ. أنا: طب هما فين؟! هى: عيناهم فى كل بيت شوية.. عند الست دى، وأشارت إلى سيدة عجوز تجلس فوق كرسى متحرك بجانبها، ويبدو أنها تحتمى بها، وأضافت: أنا سايبة حاجتى فى كل بيت شوية. أنا: وبتنامى فين؟! هى: هنا.. هو فى أحسن من القاعدة هنا.. وبحريتك وفى أمان.. الحكومة كلها جنبك أهو، وأشارت إلى سيارات المطافي والشرطة التى تصطف رصيف المسجد.. حاولت أن أتعرف على حالها أكثر من ذلك، ولكنها أصابها الملل وقالت بعصبية: خلاص بقى انتِ بتسألى ليه؟ كل واحد فيه اللى مكفيه، ومتقلبيش عليَّ المواجع، فخضعت لأوامرها، وتركتها على أمل أن أعود إليها لنعيش معاً أصدقاء فى رحاب الحسين. «شوفت ربنا» «شوفت رؤيا عاوزة حد يفسرها.. يا ابنى تعرف فى الأحلام.. يا بنتى تعرفى تفسرى حلم؟».. سؤال تردده بإلحاح على المارة، سيدة عجوز فى أوائل الستينيات، ترتدى جلباباً أسود و«شبشب» متهالكاً، وفى يدها اليسرى «بوك» فارغ عفا عليه الزمن.. أقصى أمانيها أن تجد من يفسر لها حلماً رأته فى منامها، تستعطف الناس بعيون ممتلئة دموعاً.. اقتربت منها، وطلبت أن تقص علىّ ما رأته.. فرحت وابتسمت، وكأننى رسول من السماء بعث من أجلها، جذبتنى نحوها وجلسنا على سور المسجد، وقالت «أم خالد»، وهذا اسمها: رأيت إنى أمام عمارة عالية جداً، وكنت فى أمس الحاجة للطعام والشراب وليس معى أى نقود، فطلبت من العمال أسفل العمارة أى مساعدة، وأشرت بإصبعى إلى فمى، فأشاروا لى بأيديهم إلى فوق خالص أعلى العمارة، حيث يتواجد المدير الكبير لهم، فصعدت إلى آخر دور فوق أعلى العمارة، ومضت تروى حلمها، وقابلت رجل أعطانى مالاً و فيراً وطعاماً وشراباً، ووعدنى بأن الحال سيكون أحسن وأفضل، واستيقظت بعدها، سألتنى فى لهفة إيه رأيك دى حاجة كويسة هو دا ربنا؟! ربت على كتفها، وقلت لها أبشرى خيراً. «أم خالد» أفنت حياتها كعاملة نظافة داخل مستشفى الحسين، وبعد سنين طويلة فوجئت بالاستغناء عنها دون أن تحصل على مليم واحد وكانت - حسب قولهم - تمسح وتكنس وتزيل بقايا الدم وفضلات المرضى ليكافئها المستشفى بالاستغناء عنها لكبر سنها. توفى زوجها وابنها، ولم يتبق لها من الدنيا سوى حفيدها الذى ترعاه، ولا يوجد دخل شهرى لأم خالد ولا معاش، وعلى الرغم من ذلك لم تطلب مساعدة من أحد، ورفضت رفضاً باتاً أن يتم تصويرها، مرددة عشرات المرات جملة لزميلى المصور أمنتك أمانة ما تصورنى، دى أمانة فى رقبتك ليوم الدين، حيث سبق أن قامت بتقبيل رأس أحد أمناء الشرطة قام بمساعدتها، وتم التقاط صورة لها، ونشرت فى أماكن عديدة، فحزن حفيدها وقام بتوبيخها، سألتها لماذا لم تطلبى مساعدة من المارة؟، ردت فى غضب: أطلب مساعدة؟ مش ممكن.. المساعد ربنا بس.. تركتنى «أم خالد» وراحت لحال سبيلها، وهى تسأل كل من تقابله عن تفسير حلمها!! «رضا فى ملكوت الله» من أمام مدخل باب مصلى السيدات كانت ترقد على جانبها الأيسر، وبحوزتها «شنطة» ملونة فيها أشياء غريبة، لم يتضح منها سوى قماش وعلب فارغة، حافية القدمين رابطة شعرها بإيشارب، وأمامها كيس مناديل وعلبة سفن كانز، تئن وتتوجع بصوت مرتفع.. آه.. آه. جلست بجانبها وسألتها.. مالك؟ رفضت أن ترد أو تنظر نحوى رغم إلحاحى فى السؤال عشرات المرات، وكانت بين الحين والآخر تحتسى من علبة السفن تارة، وتصب منه فوق رأسها مرة أخرى، وبعد ساعة إلا الربع تقريباً ردت دون أن تحول وجهها لى بصوت أجش، تعبانة، بطنى ثم غطت وجهها بأكمله بقطعة قماش بيضاء، ونامت على الأرض وهى تتوجع، وبدأت أسمع عمال المسجد وبعضاً من النساء ممن يبيعون حول المسجد يتهامسون فيمن بينهم: «رضا شكلها تعبان قوى حد يوديها للدكتور»، ولكن بعد مرور أكثر من ساعة تقريباً استنتجت أنهم يقولون ما لا يفعلون، مجرد كلام فقط، سألت عامل حفظ الأحذية بالمسجد عن «رضا»، فقال إنها تعيش هنا من سنوات، ولا تكلم أحداً.. ودائماً ما تتوجع، ولا حد يعرف عنها أى حاجة، عايشة هنا على طول لكن بقالها كام يوم تعبانة وملهاش غير ربنا، حنعمل لها إيه؟!