تُعد الكاتبة الجزائرية الفرنسية إيزابيل إبرهاردت من أهم كاتبات القصة في مطلع القرن العشرين، حيث تركت بعد وفاتها عدة أعمال مخطوطة وأخرى منشورة في الجرائد والمجلات, وتعتبر أعمالها وثائق شاهدة على فترة مهمة من تاريخ الجزائر. وكتابات إيزابيل تستحق الدراسة، فهي إنسانة تستحق أن نتوقف أمامها ونحاول من خلال نصوصها القصصية أن نطرح رؤية القصة القصيرة لديها، وأن نتلمس مدى تحققها في أعمالها، فنصوصها القصصية متميزة تصل لدرجة فنية عالية من خلال الاهتمام بالحدث والشخصيات والزمان والمكان والبناء الفكري للشخصية. وانطلاقا من هذه الأهمية قام المترجم والشاعر الجزائري حسن دواس بترجمة مختارات قصصية نشرت حديثا بعنوان "نحيب اللوز". وتتكون هذه المختارات من خمس قصص، قدم لها حسن دواس بمقدمة وترجمة عن حياة إبرهاردت؛ تناول فيها هوية إيزابيل أبرهاردت التي تعد لغزًا مُحيرًا كما هو الحال بالنسبة لحياتها المترعة بالمواقف الغامضة والأسرار التي لم يُجب عنها المهتمون بسيرتها؛ فأمها ناتالي إبرهاردت ارستقراطية ألمانية تتبع المذهب اللوثري, تزوجت الجنرال بول دي موردر وأنجبت منه ثلاثة أولاد، حين قاما بتوظيف ألكسندر نيكولايفيتش ثروفيموفسكي المدعو فيفا كمربي للأولاد, كان ثروفيوموفسكي قسًا أورثودوكسيًا إرمينيًا سابقًا, ثم تحول إلى ملحد عدمي. كان بول دي موردر يتبع ناتالي في ترحالها في يأس عبر أوروبا لينتهي بهما الأمر إلى التصالح ويزداد لهما ابنا يعترف به الجنرال. لكن بعد سنة يموت بول دي موردر تاركًا ثروة هائلة لزوجته. أمضت ناتالي وألكسندر السنوات التالية مع الأولاد مرتحلين عبر أوروبا, وكان ألكسندر يقوم بزيارة لروسيا من وقت لآخر للإشراف على إدارة أموال رفيقته؛ وفي احد غياباته المتكررة, وبالضبط في السابع عشر من شهر فبراير سنة 1877 وضعت ناتالي بنتًا هي"إيزابيل" كان ذلك بجنيف بفيلا فانت، لكن ثروفيوموفسكي رفض الاعتراف بأبوة البنت لعدائيته للعقود والأعراف أو بتحريض من أطراف ما أو لسبب آخر, وحملت إيزابيل لقب جدتها إبرهاردت. ويؤكد دواس أن أمر ميلاد إيزابيل تعرض إلى الكثير من المضاربات من طرف المهتمين بحياتها, فبعضهم نسبها للشاعر الفرنسي آرثر رامبو لما من وجد من تشابه كبير بينهما, وتؤكد الكاتبة الفرنسية فرانسواز دوأوبون، أن والد إيزابيل هو الشاعر المعروف رامبو، وليس الجنرال الروسي. ودليلها علي ذلك إضافة إلى التشابه الكبير بين ملامحهما، أن اسم "ايزابيل" هو في الوقت نفسه اسم شقيقة رامبو الذي كان متعلقًا بها إلى درجة كبيرة، كذلك الجملة الواردة في أحد كتبها "أنا أيضا سأموت مسلمة مثل أبي"؛ حيث يقال إن رامبو بعد رحلة ضياعه في وادي النيل اعتنق الإسلام. ويرى دواس أن إيزابيل هي ابنة ثروفيموفسكي ولكن البيوغرافيين خاصة الفرنسيين منهم أطلقوا العنان لخيالهم واستنتاجاتهم وأحكامهم الجاهزة في الكثير من الجوانب التي تمس حياة إيزابيل. وتعلمت إيزابيل الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والكيمياء وقليلاً من الطب، كما تعلمت بعض اللغات ؛كاليونانية, التركية, اللاتينية, العربية, الألمانية, الإيطالية وطبعا الروسية. كانت إيزابيل لأسباب نفسية ترتدي لباس أخوتها, ولكن الأمر راقها فأصبحت تحب تلك الأثواب الذكورية فراحت تتزين بهذه الألبسة الغريبة لتتسكع بها في شوارع جينيف. وفي سنة 1888 جاء دور الشقيق الآخر لإيزابيل لمغادرة المنزل والالتحاق بجيش الأجانب في الجزائر. لتسمع إيزابيل ربما لأول مرة أخبار الجزائر. وبمجرد رحيل شقيقها راحت إيزابيل تتعلم اللغة العربية واللهجات القبائلية, وكذلك الرسم لتتمكن من إعداد الرسومات التخطيطية الضرورية للرحالة. ومنذ ذلك الحين لم تعد تفكر إلا في السفر والكتابة, ولهذا طلبت من أخيها أن يدون بدقة يوميات حياته كجندي؛ حتى هي استعارت اسم نيكولا بودنسكي وربطت علاقة مراسلة بينها وبين أحد أصدقاء أخيها البحارة. في شهر مايو من سنة 1897 غادرت إيزابيل برفقة والدتها جونيف باتجاه الجزائر, وعمرها عشرون سنة, واستقرا بمدينة عنابة بالحي العربي؛ حيث اعتنقا الإسلام هناك. وفي 1898 نشر الجهاز الإعلامي L'Athénée بعض قصصها ومقالاتها, ولكنه توقف عن النشر لها بعد نزاع وقع بينها وبين المدير بسبب قضية دريفيس وأفكار أخرى مُعادية للسامية, وبقيت إيزابيل بلا مصدر رزق؛ في هذه الفترة بدأت في كتابة (راحيل) وهي رواية تدور أحداثها حول قصة حب بين طالب مسلم وفتاة يهودية وهي الرواية التي رافقتها أينما ذهبت والتي لم تستطع إكمالها. وفي مايو 1901 أجبرت إيزابيل على مغادرة الجزائر وتوجهت إلى مرسيليا باسم مستعار متنكرة في بدلة للعمال حتى تتمكن من السفر في الدرجة الرابعة الممنوعة على النساء. وفي مرسيليا فكرت ايزابيل بالعودة ثانية إلى الجزائر، ولم يكن أمامها من سبيل إلى ذلك إلا الزواج ولأنها كانت تدرك أن سبيل العودة إلى الجزائر هو الزواج من فرنسي، واستطاعت أن تحصل من السلطات الفرنسية على رخصة الزواج المدني وتم ذلك بعد التحاق سليمان بها بمرسيليا في 17 أكتوبر1901 وأصبح اسمها "ليلى محمودة". وعن زواجها كتبت الكاتبة الفرنسية سيمون دوبفوار : "عندما تزوجت إيزابيل التي انطلقت إلى الصحراء بزي الرجال علي ظهر جوادها، لم تشعر بعدم الاحترام تجاه ذاتها، من الصعب القول لماذا اختارت ايزابيل هذا الزي؛ ربما يكون قد راق لها أو اعتمدته للدفاع عن نفسها, إن الزي الرجالي قياسًا إلى الزي النسائي شيء مصطنع، لكنه قياسًا إلى الزي النسائي أكثر راحة, جورج صاند مثلاً كانت مثل إيزابيل ترتدي ملابس الرجال ". في 2 أكتوبر 1904, تدخل إيزابيل المستشفى العسكري بعين الصفراء للمعالجة من مرض الملاريا الذي كانت تعاني منه منذ مدة, وبقيت بالمستشفى لمدة أسبوعين؛ بعد خروجها كتبت لسليمان رسالة تطلب منه الالتحاق بها لمرافقتها؛ حيث أجرت منزلاً طينيًا في الجهة المنخفضة من القرية واستقرت به. في 21 أكتوبر1904, بعد تغير مفاجئ للأحوال الجوية اجتاح (عين الصفراء) سيل جارف غمر واديها المجدب, فدمر جزءًا من المدينة، استطاع سليمان أن ينجو من هذه الكارثة الطبيعية, غير أن إيزابيل قد أضعفها المرض لم تستطع الهروب ووجدت ميتة تحت أنقاض منزلها, مرتدية لباس الفرسان العرب. ودفنت بمقبرة سيدي بوجمعة الإسلامية.