رغم مشاعر الحزن التي انتابت المصريين على إثر أحداث ماسبيرو المأساوية, إلا أنه سرعان ما ظهر تطور سار جدد الأمل بأن ثورة 25 يناير تسير على الطريق الصحيح وخاصة فيما يتعلق باستعادة أرض الكنانة دورها الريادي عربيا وإقليميا ودوليا . ففي 11 أكتوبر, توصلت حركة حماس وإسرائيل بوساطة مصرية لاتفاق لإطلاق سراح 1027 أسيرا فلسطينيا في سجون الاحتلال مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة منذ عام 2006 جلعاد شاليط. وفي 18 أكتوبر، تم تنفيذ المرحلة الأولى من الصفقة , حيث وصل شاليط "25 عاما" عبر حدود قطاع غزة إلى سيناء وسلم إلى مسئولين مصريين قاموا بنقله إلى نقطة حدود إسرائيلية قريبة ونقل إلى مسقط رأسه في جنوب إسرائيل داخل مركبة عسكرية، وذلك بالتزامن مع الإفراج عن الدفعة الأولى من الأسري الفلسطينيين والتي وصل عددها إلي 477 أسيرا فلسطينيا. وبالنظر إلى أنه تم التوصل لاتفاق تبادل الأسرى بعد أكثر من خمس سنوات من عملية أسر شاليط وما أعقبها من حوالي 120 جولة مفاوضات غير مباشرة بوساطات متعددة أغلبها مصرية وألمانية، فقد سارع كثيرون للتساؤل عن سر إنجاز صفقة شاليط في هذا التوقيت تحديدا؟. كلمة السر ورغم أن الظاهر على السطح أن الأمر مرتبط بتحديات داخلية يواجهها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو دفعته لإبداء مرونة لإنجاز الصفقة, إلا أن كلمة السر يبدو أنها لن تخرج عن ثورات الربيع العربي ورحيل نظام مبارك واستعادة الثقة بين القاهرة وحماس . فمعروف أن نتنياهو أكد أكثر من مرة في السابق رفضه لصفقات تبادل مع ما سماه "الإرهاب" ، إلا أنه خرج على الملأ في 11 أكتوبر ليعلن أن اتفاق مبادلة "شاليط" أفضل ما كان بالإمكان التوصل إليه في الظروف الراهنة . ولم يكتف نتنياهو بما سبق, بل إنه أكد أيضا أن نافذة الفرص الحالية التي فتحت لإتمام تلك الصفقة قد لا تتكرر أبدا، وهو الأمر الذي فسره كثيرون بأن الحراك الشعبي وموجة الاحتجاجات على الغلاء بإسرائيل قد تكون من عوامل تغيير مواقفه حيال الصفقة لرفع شعبيته المتدهورة، لكنها لم تكن القول الفصل. فقد أشار محللون إسرائيليون صراحة إلى تعاظم خشية تل أبيب من مستقبل الثورات العربية وتحديدا من احتمال صعود أنظمة حكم جديدة ترفض أن تتعامل مع إسرائيل أو أن تقدم أية تنازلات لعقد صفقات معها , كما حدث في اتفاق مبادلة "شاليط" ، هذا بالإضافة إلى أن مسارعة نتنياهو للمصادقة على الصفقة يعزز موقف حكومته تجاه ما يسمى ب "الخطر الإيراني" ولاسيما بعد اتهامات واشنطن لطهران بالتورط في مؤامرة لاغتيال السفير السعودي بواشنطن . وذكر المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي في هذا الصدد أن نتنياهو يريد أن يحسن أوضاع إسرائيل الدولية التي تدهورت كثيرا بسبب الثورات العربية والأزمة الحادة مع تركيا وموقفها المعادي لطلب إعلان الدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة، مشددا على أن الثورات العربية أثرت على قرار نتنياهو بسبب قلقه من نتائج الانتخابات المرتقبة في مصر . واستطرد قائلا :" الصفقة قد تمنح قيادة حماس في الخارج بطاقة دخول إلى مصر ودول عربية معتدلة بعدما اهتزت الأرض من تحتها في دمشق , هذه هي نافذة الفرص التي تحدث عنها نتنياهو والتي ربما تغلقها تطورات الثورات العربية". وفي السياق ذاته, قال المحلل العسكري البارز في صحيفة "هاآرتس" عاموس هارئيل أيضا إن الصفقة تمت نتيجة إبداء ليونة من قبل الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني , لافتا إلى أن إسرائيل وافقت على تقليص عدد الذين طالبت بإبعادهم إلى خارج وطنهم ، بينما وافقت حركة حماس على التنازل عن إطلاق سراح بعض رموز الأسرى الكبار أمثال عبد الله البرغوثي ومروان البرغوثي وعباس السيد وأحمد سعدات. وتابع هارئيل أن وسائل الإعلام العبرية وأذرع الأمن شجعت وساندت نتنياهو في موافقته على الصفقة غير المسبوقة في تاريخ صفقات التبادل بين إسرائيل والفلسطينيين من ناحية ضخامة ثمنها "ألف أسير مقابل جندي واحد ". وأشار إلى أن حركة حماس في ظل "حالتها السياسية" الراهنة اضطرت إلى التنازل عن بعض مطالبها السابقة بعد زعزعة النظام في سوريا حيث مقر قيادتها, كما اعتبر أن سقوط نظام حسني مبارك دفع حماس إلى الوثوق بالوسطاء المصريين . وبجانب ما سبق , عزت صحيفة "الجارديان" البريطانية أيضا في تقرير لها في 16 أكتوبر إتمام الصفقة في هذا التوقيت إلى الربيع العربي وخاصة في ظل ما وصفته بقدرة الشعب المصري المتنامية في التعبير عن مشاعره تجاه إسرائيل، إضافة إلى أن المخابرات المصرية كانت الراعي للمفاوضات وذلك باعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه والذي ألمح إلى أنه لو تم تأجيل عقد الصفقة لأي فترة قادمة، فإنها قد لا تحصل أبدا. وأضافت الصحيفة أن إسرائيل باتت في عزلة أكبر بعد رفضها تقديم اعتذار لتركيا عن مجزرة أسطول الحرية ، كما أن حماس تواجه نصيبها من المشاكل، وخاصة في ظل الغضب الشديد الذي تلقاه من جانب كل من الرئيس السوري بشار الأسد والإيرانيين، بسبب رفضها اتخاذ موقف واضح في الربيع العربي، مما ينذر بقرب انتقال القيادة الخارجية للحركة بعيدا عن دمشق. وانتهت "الجارديان" إلى القول إن صفقة الأسرى تأتي في الاتجاه الصحيح، فإسرائيل لا يمكنها إعادة تشكيل البيئة من حولها، ولذا فعليها العيش فيها كما هي . وبدورها , وصفت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية الاتفاق بين إسرائيل وحماس على تبادل الأسرى بينهما بأنه "اختراق دبلوماسي" يمنح الطرفين حافزا هما في أمس الحاجة إليه لما يعانونه في الآونة الأخيرة في ظل المتغيرات الإقليمية الناجمة عن "الربيع العربي". وأضافت الصحيفة أن نتنياهو بتعاونه في إبرام صفقة الأسرى بدا حريصا على تحسين العلاقات مع مصر بعد أن شابها الفتور عقب حادث الحدود في أغسطس الماضي . وتابعت "كريستيان ساينس مونيتور" أن حماس ظلت تعاني في الآونة الأخيرة جراء الانتفاضة الشعبية في سوريا ضد "راعيها الإستراتيجي والسياسي الرئيس بشار الأسد" ، موضحة أن إتمام صفقة الأسرى سيزيد شعبيتها . كما وصفت صحيفة "الاندبندنت" البريطانية نجاح إتمام صفقة الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط بأنه ضربة للمشككين في استعادة مصر الجديدة لمكانتها عالميا وقدرتها على حل الخلافات والتدخل لإنجاح صفقات كبيرة تترتب عليها أمن المنطقة. وأضافت الصحيفة في تقرير لها في 18 أكتوبر أن حركة حماس سلمت شاليط لمصر إيذانا ببدء صفقة تبادل الأسرى مع إسرائيل وهو ما يعتبر نجاحا كبيرا لمصر الجديدة في احتلال مكانة متقدمة في المنطقة بعد فترة التراجع التي شهدتها البلاد في عهد النظام السابق. إنجازات مصر الثورة وبصفة عامة وبصرف النظر عما ذكرته وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية , فإن نجاح صفقة شاليط يعتبر إنجازا خارجيا جديدا لمصر الثورة بعد قيامها بفتح معبر رفح ونجاحها في التوصل للمصالحة الفلسطينية . ولعل ما يضاعف من أهمية الإنجاز السابق أنه جاء بعد أيام قليلة من تعرض الثورة المصرية إلى مأزق كبير بسبب أحداث ماسبيرو , وهو الأمر الذي وجه صفعة قوية للأعداء في الداخل والخارج ، بل وجعل أيضا أرض الكنانة تخطف الأضواء وتتصدر وسائل الإعلام العالمية بانتصار سياسي كبير . ويبقى الأمر الأهم وهو أن صفقة شاليط شهدت سنوات من المفاوضات، كانت مصر في ظل مبارك هى حجر الزاوية فيها، لكنها لم تنجح إلا بعد سقوط نظامه, الأمر الذي كشف بوضوح أنه كان لايقف على مسافة واحدة بين إسرائيل وحماس ويناصب الأخيرة العداء . ورغم أنه لم يعرف بعد ما إذا كانت حماس ستنقل قيادتها في الخارج إلى القاهرة بدلا من دمشق, فإن الأمر الذي يجمع عليه كثيرون أن مصر الثورة تحقق إنجازات متتالية على صعيد استعادة دورها التاريخي في الصراع العربي الإسرائيلي . وبالنسبة لحماس, فإنه يتوقع أن تفتح صفقة تبادل الأسرى الباب أمام مزيد من الاتصالات الدولية معها وتصعيد الضغوط الدولية على إسرائيل لإنهاء حصارها الخانق على غزة . وفي هذا الصدد, يرى مدير مركز أبحاث المستقبل في غزة إبراهيم المدهون أن صفقة شاليط ستساعد حماس في تخطي بعض العقبات الغربية ذات الطابع النفسي والإعلامي في تقبل الحوار معها. وأشار المدهون في تصريحات لقناة "الجزيرة" في 16 أكتوبر إلى أن حماس استطاعت أن تحقق نصرا سياسيا كبيرا, معتبرا أن إتمام الصفقة يهدم مزاعم إسرائيل حول أنها "حركة إرهابية " ويقدمها للعالم على أنها حركة تحرر سلوكها مشروع ومقبول ولا غبار عليه. وبجانب الإنجاز السياسي, فإن حماس أثبتت أيضا نجاحا أمنيا كبيرا بعد فشل إسرائيل في العثور على شاليط الذي وقع في قبضة المقاومة الفلسطينية في 25 يونيو 2006 رغم تسخيرها لإمكانيات أمنية واستخبارية كبيرة وصلت إلى حد الإغراءات المادية أملا في الوصول إلى مكان احتجازه, هذا بالإضافة إلى أنها شنت حربا على غزة أواخر 2008 ولم تستطع أيضا الوصول إلى أي معلومة تدل عليه. الرقم ''1934'' وكان شاليط -المولود في نهاريا شمالي إسرائيل في 1986- أُسر في 25 يونيو 2006 على يد مقاومين من كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، وألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية وجيش الإسلام في عملية عسكرية نوعية أطلقت عليها الفصائل اسم عملية "الوهم المتبدد"، والتي اعتبرت من أكثر العمليات الفدائية الفلسطينية تعقيداً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية. واستهدفت العملية قوة إسرائيلية مدرعة من لواء جفعاتي كانت ترابط ليلاً في موقع كيريم شالوم العسكري على الحدود بين مدينة رفح الفلسطينية وإسرائيل. حيث نجح المقاومون في التسلل عبر نفق أرضي كانوا قد حفروه سابقاً تحت الحدود مما ساعدهم على مباغتة القوة الإسرائيلية. وانتهت العملية بمقتل جنديين وإصابة خمسة آخرين بجروح وأسر شاليط وتمكن المقاومون من اقتياد الجندي الأسير إلى عمق القطاع بسرعة فائقة رغم التعزيزات الجوية الإسرائيلية الفورية في الأجواء وخصوصاً في سماء مدينة رفح قرب مكان تنفيذ الهجوم. ورغم فرحة نتنياهو بالإفراج عن شاليط الذي بات يحمل الرقم ''1934'' وهو عدد الأيام التي قضاها في الأسر , إلا أن الإسرائيليين منقسمون حول الثمن الذى تكبدته تل أبيب من هذه الصفقة. وذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن الفائز في هذه الصفقة هما حركة حماس وعائلة شاليط, بينما خسرت إسرائيل، وتساءلت " كيف يتم الإفراج عن أشخاص مثل محمد دوجلاس المسئول عن تفجير مطعم سوبارو للبيتزا فى القدس والذي قتل فيه 15 إسرائيليا, بالإضافة إلى عبد الهادى غانم من حركة الجهاد وهو المسئول عن عملية قتل فيها 16 إسرائيليا عام 1989". تنازلات مؤلمة ويبدو أن التنازلات التي قدمها نتنياهو ستضاعف أيضا حدة الجدل داخل إسرائيل, فهو لم يوافق فقط على إطلاق عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين "1027" مقابل جندي واحد، وإنما وافق أيضا على إطلاق أسرى قتلوا إسرائيليين وحكم عليهم بأحكام عالية وهي النقطة التي كان رفضها العديد من مسئولي أجهزة الأمن في الكيان الصهيوني خشية اندماج هؤلاء في عمليات جديدة ضد إسرائيل. كما وافق نتنياهو على إطلاق أسرى من القدسالمحتلة التي تعتبرها إسرائيل واقعة تحت سيادتها، بالإضافة إلى الإفراج عن أسرى من عرب 48 وهو ما يعتبر إنجازا سياسيا يمكن البناء عليه لأن إسرائيل اعترفت ضمنا بحقوق للفلسطينيين في الأراضي التي سيطرت عليها عام 1948 وأعلنت قيام دولتها عليها، كما أنه ينقض مطالبات تل أبيب للفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية ". ورغم أنه وجهت بعض الانتقادات لحماس لموافقتها على إبعاد عدد من الأسرى إلى خارج وطنهم أو إلى غزة, إلا أن الحركة وافقت على هذا البند بعد أن رأت عائلات المشمولين في الصفقة أن ذلك ربما يكون أفضل من تعرضهم للاغتيال على يد القوات الإسرائيلية. وبصفة عامة, فإن الصفقة أكدت فشل تل أبيب في ترويض المقاومة عبر العملاء أو الحرب أو الاستخبارات , كما أنها تعتبر الأكبر من نوعها بين إسرائيل والفلسطينيين منذ العام 1985 عندما نجحت الجبهة الشعبية - القيادة العامة في إطلاق سراح 1150 أسيرًا فلسطينيًا ولبنانيًا وعدد من الأسرى العرب , مقابل الإفراج عن ثلاثة جنود إسرائيليين أسرتهم الجبهة في لبنان .