كما الحب.. تتجاوز الصداقة فكرة التعريفات المادية، لتبقى شعوراً إنسانياً لا يمكن الاطلاع عليه، بقدر ما يمكننا ان نلامسه فى حضرة الصديق، وهو ما يجعله عملة نادرة كلما تقدمت بنا الحياة، فهو خطوة الروح على أرض لم نطأها، وهو عيننا التى ترانا دون أن تكون لنا، هو ما اختلج وتجرد وارتقى بمدد من خير مطلق. بحساسية مفرطة، وتوهج لا ينطفئ، تسرب أرواحنا بسمرته الوديعة، فأغفلنا قلوبنا عليه، ليبقى أحمد زكى ملتحفاً بأوردتنا، نختزنه رحيقاً وألماً وثورة، ونجتر إنسانيته لنشبع إنسانيتنا، لا من خلال أدواره فقط، ولكن من خلال عملته النادرة، التى تمثلها صداقة تفتحت أعيننا عليها، لنراه ممتزجاً بصديق عمره الفنان ممدوح وافى، ونتتبع رحلتهما معاً والتى تليق بسيناريو سينمائى، يحمل العديد من العقد الدرامية، والحبكات المحكمة، التى أفرزت أكثر من ذروة تعتمد على المفارقة فى كثير من مشاهدها. ورغم الاختلاف بين البيئة التى ولد وترعرع فيها الراحل أحمد زكى، والبيئة التى تربى فيها الراحل ممدوح وافى، فإن الصداقة التى جمعت بينهما، لم تكن متوقعة، قبل أن تتحول إلى مضرب للأمثال، فى الحب، والإخلاص، والتفانى، منذ اجتمعا وحتى فرقهما الموت، خاصة أن أحمد زكى ولد لأسرة فقيرة، وذاق طعم اليتم، والحرمان المادى والعاطفى مبكراً، بينما ولد وافى لأسرة ميسورة، عشق التمثيل كان مفتاح علاقتهما، والذى جمع بينهما منذ البداية، ورغم أن أحمد زكى تفوق ليصبح النجم الأول على شاشة السينما، بعد رحلة كفاح طويلة، ذاق فيها مرارة أن يجاهد ليبرهن على أنه يمتلك موهبة لم يمنحها الله لغيره من أبناء جيله. ظل ممدوح وافى حتى وفاته، متأخراً بخطوة، ليقف خلف صديقه ويدعمه، ولم يهتم أياً منهما بترتيب الأسماء على التترات، أو كيفية وضع أحدهما على الأفيش، وغيرها من الأمور التى قد يجد أبطال الأدوار الثانية، أن الحصول عليها بمثابة «عربون» صداقة، يمنحه النجم الأول للمقربين منه، فلم يطالب ممدوح وافى صديقه بمشهد زائد، ولم يفرض نفسه على أى من الأعمال الفنية، التى كثيراً ما ناقشها مع صديقه، حتى لو لم يناسبه أي من أدوارها، فهو مرآة لصاحبه، وصديق أقصى ما يطلبه من أحمد زكى بنجوميته الطاغية، لا يزيد علي إصراره على مرافقته بعد الموت، كما رافقه فى الحياة، ليوصى ممدوح وافى بدفنه فى مقبرة رفيق دربه فى حال وفاته، ويشاء القدر أن يدفن فى مقبرة الفتى الأسمر، قبل أن يلحق به رفيق دربه بعد 5 أشهر من وفاته، وكأنه أبى أن يترك صديقه وحيداً فى ظلمة القبر، ليلحق به إلى العالم الآخر، ويرقد إلى جواره حتى قيام الساعة. كان ممدوح وافى، نموذجاً للصديق المخلص، شارك أحمد زكى أحزانه، وأفراحه، ومقبرته، ورغم محدودية أدواره داخل الأعمال الفنية التى قدمها، إلا أنه امتلك حضوراً طاغياً على الشاشة، فهو يتمتع بالصدق والإخلاص فى الحياة، والأمر نفسه كان يظهر فى أدائه ليمتلك القدرة. ورغم اختلاف طبيعة أدوارهما، فإن أحمد زكى، كان من أشد المؤمنين بموهبة صديقه ممدوح وافى، وكان يثق بأن بداخله قدرات فنية كبيرة، إذا أتيحت له الفرصة لإخراجها، ولكن عشق «وافى» لصديقه، وعمله معه فى أغلب أفلامه، حرمه من الكثير من الفرص، وفى المقابل لاحظ أحمد زكى، إصرار صديقه على رفض أعمال تعرض عليه مقابل مشاركته، فكان يعمل جاهداً على أن يكون ممدوح وافى ضمن فريق أى عمل جديد، لأنه لم يكن يطلب دوراً، وكانت النتيجة بأنهما تشاركان بطولة أفلام عديدة، ولكن ملاحظة «وافى» لهذا الأمر، دفعته للاتجاه نحو الدراما التليفزيونية، ليقدم العديد من الأعمال بعيداً عن صديقه، منذ آخر أعمالهما المشتركة فى منتصف التسعينيات، وتمتد أدواره حتى بدايات الألفية الجديدة، ولكنه لم ينفصل عن أحمد زكى إنسانياً، وبقى «وافى» الصديق يلعب دوره فى الحياة، كما لعبه فى السينما كصديق البطل فى معظم الأوقات، كما فى فيلم «البيضة والحجر»، فكان صديق «مستطاع»، مدرس الفلسفة الذى هجرها، وهجر الفقر ليتحول إلى دجال شهير، وفى «استاكوزا» كان «مرزوق»، صديق «عباس العنتيل» وحادثته الشهيرة، ولكنه لم يقدم دور الصديق فى فيلم مثل «سواق الهانم»، الذى لعب فيه ممدوح وافى، دور شاب ثرى يعتدى على خادمته، فيقوم السائق أحمد زكى، بتأديبه وتهذيبه وإصلاحه، وبعد أن يتزوج الخادمة يتحولان إلى صديقين أيضاً، كأن الصداقة قدرهما حتى على شاشة السينما. رحلة امتدت لعقود جمعت أحمد زكى وممدوح وافى، ولكن النهاية كانت درامية أيضاً، بعد أن شعر ممدوح وافى، بصدمة لا تضاهيها صدمة، حينما اكتشف مرض صديقه بسرطان الرئة، فتفرغ ليلقى حياته جانباً، ويلازمه فى رحلة العلاج، ويبدأ فى إدراك أن أحمد زكى سيفارقه قريباً، ليوصى هو الآخر بأن يدفن إلى جواره بعد وفاته، ولكن الدراما الإنسانية تصل إلى ذروتها، بعد أن يكتشف «وافى» بأنه مصاب هو الآخر بمرض السرطان، والصدفة وحدها هى التى تجعله يدرك طبيعة مرضه، ويؤكد الأطباء أنه فى مرحلة متأخرة مع تفشى المرض الخبيث، ليرقدا معاً على فراش المرض، وإذا تألم أحدهما يرجع الآخر صدى آهاته، ولكن المفارقة الدرامية فى السيناريو القدرى، تجعل ممدوح وافى يسلم الروح لبارئها، ويرحل عن دنيانا فى 17 أكتوبر 2004، لتنفذ وصيته، ولكنه يدخل مقبرة أحمد زكى قبل أن يلحق به بعد مرور 5 أشهر، عانى فيها من فقدان رفيق الحياة والممات، قبل أن تهرول روحه إليه، ليجتمعا فى رحاب الله.