شهامة التماهي الطوعي مع الأمكنة المعتدى عليها بالقتل والتفجير، باتت عرضة للفولكلورية الأخلاقية الرتيبة. فالقول «أنا أو نحن» هذه المدينة - الضحية أو الصحيفة المستهدفة أو أي هيئة وشخصية طاولها العنف، أخذ يغطي مناطق في العالم نازعاً صفة الفرادة عن الضحية، ما يفقد تعبيرات التضامن والتعاطف معها القيمة الأخلاقية والسياسية المرتجاة. يخيّل للوهلة الأولى أن التضامن مع ضحايا الاعتداءات الإرهابية في بروكسيل وقبلها في باريس وأنقرة واسطنبول وتونس وبغداد والضاحية الجنوبية لبيروت، وفي أمكنة أخرى في أفريقيا وآسيا، مؤهل لإنشاء نوع من المساواة القيمية بين هذه الكيانات المقصوفة والمستهدفة عشوائياً وبطريقة جنونية. والحال أن هذا الانطباع المتولد عن استهداف «داعش» من دون تمييز لمرافق وشرايين مدن وأحياء وبشر لا يصمد أمام التمايزات الناجمة عن وقائع التاريخ الحافل بتفاوتات ونتوءات كثيرة. ولئن كانت اعتداءات بروكسيل الدامية وثيقة الصلة باعتداءات باريس قبل نيف وأربعة أشهر، فقد سارع الأوروبيون إلى تأكيد أن الإرهاب الداعشي إنما يستهدف قرة عين النموذج الأوروبي، أي الديموقراطية ونمط الحياة القائم على احترام الحرية الفردية. أما «أهل» الأمكنة الأخرى التي استهدفها العنف الشمشوني الداعشي، فهم يقولون أشياء أخرى لتوصيف ثأر «داعش» منهم، أي هويتهم المفترضة وما هم عليه. يرجح في الظن أن الراية الداعشية وما يشبهها ستظل، حتى إشعار آخر، القطب الجاذب لمجموعات من الأشقياء وأصحاب الفتوات الراغبين في تدمير كل ما يغايرهم. فهذه طريقتهم، العدمية في المساواة بين ضحاياهم. صحيح أنهم قادمون من بيئات مرضوضة ومثقلة بجروح اجتماعية وفردية ناجمة، في منظار تاريخي وسوسيولوجي، عن سياقات الهجرة والتهميش والشقاوة. إلا أنهم يصرون على تقديم أنفسهم بطريقة مشهدية فاقعة بوصفهم حملة اللعنة الأبدية التي ينبغي أن تحلّ على البشر وحاضرهم. هذا التقديم هو ما توفره الراية الداعشية للثأر، ما يحول دون الاستيلاء العاري على الحاضر وأمكنته، أي من العالم كله، ومن التاريخ جملة وتفصيلاً. في هذا المعنى، تفصح حالة «داعش» عن اتخاذ السلفية الجهادية بعداً قيامياً يلحّ في إنزال العقاب بكل ما يحتمل الاستقرار والعاديّة. المفارقة الكبرى ههنا، أن الدعاة القادمين من هوامش المدن الأوروبية ومعازلها البشرية أقرب إلى التعبير بالسكين والمسدس منهم إلى التعبير بالألسنة. وليس من قبيل الصدفة أن نجد في صفوف «الذئاب المنفردة» أو «المستوحدة» نسبة لا يستهان بها من الجانحين وخريجي السجون، وهم غالباً قليلو التدين ولا يطلبون من الإسلام ما يسعه أن يوفره لهم من غذاء روحي وأخلاقي. سيكون لمرتكبي المجزرة في بروكسيل أن تحتل أسماؤهم واجهة الأخبار وشاشات التلفزة لبضعة أيام فقط. سينكب المعلقون والمحللون وعلماء الاجتماع والتحليل النفسي على رواية هؤلاء الأشقياء بعدما صاروا رموزاً للنجومية السلبية. أسماء نجم العشراوي والأخوين خالد وابراهيم البكراوي والمعتقل قبيل تفجيرات بروكسيل صلاح عبدالسلام الناجي الوحيد من اعتداءات باريس، تدور اليوم على شفاه كثر وألسنتهم في أوروبا. لكن النبذات المتعلّقة بمساراتهم وبانتقالهم من عالم الجنح والسطو إلى الجهادية الإسلاموية، لا تحمل أي جديد. فحالتهم تكاد تتطابق مع حالة الأخوين كواشي، منفذي الهجوم الدموي على صحيفة «شارلي إيبدو»، كما تتطابق مع حالة معظم منفذي الهجوم على مسرح الباتاكلان في باريس، وعلى الجالسين في بعض المقاهي والمطاعم. ما يلفت النظر وما يبدل بعض الشيء صورة الذئاب المستوحدة، هو ظاهرة التحام أخوين اثنين في ذئبية واحدة. فهناك الأخوان كواشي والأخوان عبدالسلام والأخوان البكراوي. وهناك أيضاً الخريطة القرابية والأهلية الجغرافية التي تربط بين عدد من الأفراد الملتحقين بالفتوة الجهادية وسحرها على شبان مقطوعي الصلة مع تقاليد جماعتهم الأصلية وثقافتها. لقد عثر المحققون في بروكسيل على جهاز كمبيوتر يعود، وفق ما قيل، إلى ابراهيم البكراوي الذي فجر نفسه في المطار. فوجدوا رسالة حميمة اعتبرها البعض في مثابة وصية تركها الانتحاري، إذ يتحدث فيها عن حيرته وضياعه وضيقه من الخناق والمطاردة اللاحقين به، وعن استعجاله الخلاص الانتحاري خوفاً من دخول السجن إلى جانب شخص لم يسمّه هو على الأرجح المعتقل صلاح عبدالسلام. من الخطأ توصيف هذا النص بالوصية، فهو يخلو من العبارات المعهودة في وصايا الجهاديين والانتحاريين. لكنه بالتأكيد يفصح عن تلمس حل شمشوني للخلاص، وهو من قماشة الحلول الشمشونية التي يستعرضها الداعشيون وأمثالهم في العديد من ساحات القتال. وهذا يعزز فرضية أن تفجيرات بروكسيل تم ارتجالها أو تسريع تنفيذها بعد اعتقال عبدالسلام الهارب من العدالة والمختبئ طوال أشهر في بيت يبعد عشرات الأمتار فقط من البيت الذي كبر فيه. أطلقت اعتداءات بروكسيل سجالات حول تقصير السلطات البلجيكية في مكافحة الإرهاب. حصل جدل بين بعض المسؤولين الفرنسيين والبلجيكيين حول هذه المسألة، وتم تبادل الاتهام بالتقصير وقلة الاحتراز. ودخل الرئيس التركي على الخط كاشفاً عن أن أحد الانتحاريين، وهو ابراهيم البكراوي، أوقفته السلطات التركية في غازي عنتاب في حزيران (يونيو) الماضي، وأعلمت السلطات البلجيكية بأنه مقاتل إرهابي. ورد مسؤول بلجيكي بأن الأتراك طردوا البكراوي فذهب إلى هولندا وليس إلى بلجيكا. ليس غريباً حصول مثل هذه السجالات التي تضع على المحك آليات التنسيق الأمني بين الدول وتمسّكها بسياداتها الوطنية وطريقة عمل أجهزتها. في خلفية السجال، تكمن اعتبارات تتعلق بسياسات الدول وخصوصيات تعاملها مع ظاهرة الإرهاب، حيث يحرص كل طرف على وضع الخصوم والمعارضين في سلة الإرهاب حتى وإن كان ضعيف الصلة بالجهادية التكفيرية. سيظل الصراع على تثبيت المكانة وتراتبيتها قائماً بوصفهما قاعدة التاريخ الحديث والمعولم. وحده الإعلان عن ضرورة اتحاد العالم في الحرب على الإرهاب، وفق ما قال أوباما والعديد من المسؤولين الكبار، يلامس فكرة المساواة القيمية بين المعتدى عليهم. على أن هذه الملامسة تبقى ضرباً من الإنشاء البلاغي. والحال أن الظاهرة الداعشية تتغذى من أشكال التظلم الفردي والجماعي في ظروف خاصة بكل بلد وبيئة. ويبدو أن العالم لن يكفّ عن توليد سواقط وجانحين. . نقلا عن صحيفة الحياة