في آخر عام 1970 علي وجه التقريب، أدلي الدكتور محمود فوزي، الذي كان رئيسا للوزراء، بحديث مطول لمحمد حسنين هيكل نشر علي صفحات الأهرام، أبرز فيه، أنه بقدر ما نبذل للشأنين: الصحي والتعليمي، من جهد يقوم علي العلمية والجدية، بقدر ما يقوم تقدم مصر ونهوضها الحضاري، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.. وفي الفترة نفسها أطلق الراحل العظيم أحمد بهاء الدين، الذي كان رئيسا لتحرير مجلة المصور، علي صفحاتها الصيحة التي عرفت باسم »الدولة العصرية«، مناقضا بذلك الأصوات التي أشاعت أن الانتصار علي إسرائيل هو الذي يمكننا من إقامة الدولة العصرية، فروّج لمقولة: أننا لكي ننتصر علي إسرائيل فلابد أن نقيم الدولة العصرية. بعدها بفترة قصيرة، في مستهل عام 1971 نشرت لي مجلة المصور، علي كامل صفحتين كاملتين، خطابا مفتوحا موجها إلي الدكتور محمود فوزي، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، يقوم في جملته علي تحديد، وشرح ، مجموعة من الآليات المختلفة التي من شأنها أن توصلنا إلي توافق قومي، يضع بنظر الاعتبار، التقدم الذي حدث في بعض دول العالم في التعليم، وآراء النخبة المتخصصة في العلوم التربوية والنفسية، وكذلك المفكرين والمثقفين، والسياسيين، والاقتصاديين، وأولياء الأمور، والمعلمين، وقادة التعليم، من أجل التوصل إلي سياسة للتعليم، نعتبرها بمثابة »ميثاق وطني« لتطوير التعليم، علي أساس أن هذا هو السبيل الحقيقي لإقامة دولة عصرية.. لكن هذه الصيحة المبكرة - كالعادة - ذهبت أدراج الرياح. وشهد عام 1979 محاولة متميزة، حيث كان الراحل مصطفي كمال حلمي وزيرا للتربية لرسم هذه السياسة، بعنوان (ورقة لتطوير التعليم)، بيد أن الدكتور عبدالسلام عبدالغفار، عندما أصبح وزيرا للتربية عام 1984 ترك هذه الورقة جانبا، ليخرج ورقة أخري بعنوان (سياسة التعليم)، لم يقدر لها فرصة الخروج إلي حيز التنفيذ، لأن الرجل لم يستمر أكثر من عام وزيراً، وهكذا. وفي ربيع عام 1987 استدعاني الدكتور أحمد فتحي سرور، حيث كان وزيرا لوزارتي التربية والتعليم العالي طالبا مني أن أضع »استراتيجية« لتطوير التعليم قبل الجامعي، خلال أسبوعين اثنين، ملحا علي ذلك، حتي يستطيع طباعتها، وتعرض علي مؤتمر قومي، يحضره رئيس الجمهورية. أقول الحق، فعلي الرغم مما أسعدني هذا من فرط الثقة في شخصي، إلا أنني استبشعت الطلب، من ناحيتين: أولاهما: أن أتولي وحدي أمرا مثل هذا، حيث يتطلب فريق عمل، وثانيتهما: أن يتم خلال أسبوعين فقط، وهو العمل الذي يتطلب شهورا؟! كانت مفاوضات شاقة، وجدت طريقا لتحقيق الغرض، يتلخص في تذكر مقولة »شيء خير من لا شيء«، وأن أعتمد علي الكثير من البحوث والجهود التي تمت من قبل، علي هذا الطريق، وكذلك أن »أمد« الفترة إلي ثلاثة اسابيع، فضلا عن اختفائي عن كل الناس، وهروبي إلي أحد الفنادق بالإسكندرية، معتكفا، أصل ليلي بنهاري، حتي تمت المهمة، وخرجت الاستراتيجية إلي نور، بعد أن أكمل شخص آخر، الجزء الخاص بالتعليم العالي، حيث لم يتجاوز مساحة الثلث علي وجه التقريب. لا أريد أن أستغرق طويلا في الماضي، حيث تدور مجموعة المقالات الحالية حول المستقبل، لكن يكفي القاريء أن يعلم، أنني بعد أن نوهت في الاستراتيجية، التي عرضت علي مؤتمر قومي، وأمام رئيس الدولة ،بأهمية مرحلة التعليم الابتدائي وكيفية النهوض بها، بعام واحد، فاجأنا الوزير نفسه بإنقاص مدة التعليم الابتدائي عاما كاملا، ولم يكن هذا - ولم يكن ليكون - متضمنا في استراتيجية تطوير التعليم في مصر، والتي ترتب عليها ما كان من بلايا أصابت جسم التعليم، ودفع ملايين من أبناء الوطن ثمنا غاليا في نقص التكوين، وفي هدر الإنفاق علي التعليم. من هنا تجيء دعوتنا إلي ضرورة وضع سياسة مستقرة للتعليم، لا يتصور قارئ أنني أقوم بوضعها هنا في هذه السلسلة من المقالات، فهذا هو النهج الذي أرفضه الآن، وأفضل سلوك »الطريق القومي«، الذي يعبر عن أفكار وآراء »الجماعة«، ليكتسب »الاستمرارية فترة من الزمن، بشرط أن تكون« متنوعة الاتجاهات. إننا نعلم علم اليقين أن الكون والمجتمع، تحكمهما سنة »التغيير«، خاصة فيما يتصل بتكوين البشر، وبصفة أخص، في مجال »التعليم«، وجميعنا لابد أن يكون علي دراية بما يوصف به عصرنا مما يسمي »بالسيولة المعرفية«، تقتضي »لهثا« من قِبَل الإنسان، حتي يمكن أن يلاحقها. لكن هذا لا ينبغي أبداً أن ينفي حاجة سياسة التعليم إلي قدر من الاستقرار، لأن السياسات، هي بطبيعتها، أشبه بما نسميه »خارطة طريق«، ترسم غايات وأُطرا لحركة المستقبل، ولا تتدخل في التفاصيل، لكنها تضع من الآليات ما من شأنه أن يكفل مواكبة ما يستحدث من أحوال، وما يستجد من أمور. إن لكل دولة »دستوراً«، يرسم لها الخريطة الكلية لحركة المجتمع، ولا قوام لحركة دولة بغير هذا الدستور، وفي الوقت نفسه، هناك ما يشبه الاستقرار علي أن الدستور، لا ينبغي أن تلحقه حركات تعديل بين حين وآخر، إلا في أقل الحدود، وعبر فترات زمنية غير متلاحقة، ولذلك فهو يقتصر علي »الحركة الكلية«، والمبادئ ، والقواعد، والتوجهات التي ينبغي أن تترسمها حركة العمل الوطني، محيلا إلي »القوانين« ملاحقي ما يجد من أحوال.. شيء من هذا هو الذي نريده لسياسة التعليم في مصر، أن تصبح بمثابة »دستور« يلتزم به الجميع، وكل وزير، وتتحقق المقولة التي رُفعت، لكنها لا تطبق أبداً، ألا وهي أن تكون سياسة التعليم هي سياسة وطن، وليست سياسة وزير. إننا هنا لسنا بصدد بناء »حجر«، يمكن أن يخضع لتعديلات وتطويرات، من شهر لآخر، أو من عام لآخر، وإنما نحن بصدد بناء »بشر«، بحاجة إلي قدر من الاستمرارية، تحفظ التوزان المطلوب، وتتجنب الخسائر المحتملة، وفي الوقت نفسه، تأخذ بعين الاعتبار حال حركة المعرفة، والتقدم العلمي، وسيولة التقدم المذهل في المجال الاجتماعي، حتي تغير الحال - مثلاً - في داخل الأسرة المصرية، فبعد أن كنا نجد تجانسا، ربما بين جيلين، وثلاثة، أصبحنا الآن نري »الجد« يفكر ويسلك، بما يختلف كثيرا عن »الوالد«، ثم يجيء الأبناء لينهجوا طريقا مباينا إلي حد كبير، ولو كانت الأسرة المصرية مستمرة في »الشكل الممتد«، لربما شاهدنا فروقا واسعة، حتي بين الإخوة، والأبناء، وحتي ولو كانت الفترة التي تفصل هذا عن ذاك لا تزيد عن أعوام تصل إلي اصابع اليدين. ونحن هنا نتصور أن الوصول لمثل هذا المأمول من سياسة التعليم، والتي يأتي تحديد ورسم معالمها الأساسية هو الخطوة التالية، بعد أن يحدد المجتمع الأم »البوصلة« أو »القِبْلة« التي تعبر عن هويته وطبيعته، وثوابته، ومتغيراته، وعلاقاته، ومشكلاته، وطموحاته، ومصالحه.. نقول إن الوصول إلي رسم هذه السياسة لا ينبغي أن يترك لوزير، مهما كانت قدراته، ولا لفرد، مهما كانت عبقريته، وإنما يكون ذلك عن طريق: »تكوين مجلس وطني لتطوير التعليم«، لا يكون خاضعا لوزير التربية والتعليم العالي، ولا يرأسه بالتالي، وإنما يمكن أن تكون الرئاسة فيه دورية، كل دورة لا تزيد علي عام واحد، حتي لا تكون هناك فرصة لشخص بعينه أن يسير الأمور وفقا لما يريده هو، فنحن ما الأسف الشديد، خبراء في »تأليه« أي رئيس، في أي موقع، ولا غرابة في ذلك، فالمصريون القدماء »اخترعوا« آلهة يعبدونها.. ويكون المجلس تابعا لرئيس الجمهورية.. ولابد لهذا المجلس من أن يضم بين أعضائه أعدادا يتفق عليها، تضم الفئات التالية: سياسيين - علماء تربية - واجتماع - ودين - وعلماء ورجال اقتصاد.. وألا يزيد عدد هؤلاء علي ثلاثين عضوا، يتغير ثلثهم كل عام.. وأن يطلب من جهات الاختصاص أن ترشح من يمثلونها.. وألا يكون العضو قابلاً للعزل، إذا تم اختياره وتعيينه.. ويكون لهذا المجلس تشكيل لجان نوعية للقيام ببحوث ودراسات علمية وفقا للنهج البحثي المعروف بين أهل الاختصاص، مما يقتضي تخصيص ميزانية وافية. وتكون المهمة الأولي لهذا المجلس الاتفاق علي سياسة عامة للتعليم، في جميع مستوياته وأنواعه، دون تفرقة بين عام، وفني، وديني، ومدني، ووطني وأجنبي. وتكون وظيفة المجلس، بعد التوصل إلي سياسة عامة للتعليم، أو دستور له، أو ميثاق، مراقبة مدي الالتزام بالسياسة المتفق عليها، وإدخال ما قد تحتمه ظروف التطور من مستجدات. وقد يري البعض أن مثل هذا المجلس موجود بالفعل في المجالس القومية باسم (المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا)، لكن المؤسف أن هذا المجلس، والذي بدأ بدايات قوية ملحوظة، قد أحاطت بتكوينه في السنوات الأخيرة ظروف غير مواتية، فضلا عن أن ما يقدمه من توصيات وما يجريه من أبحاث، غير ملزم لجهة التنفيذ، فهو يكاد يسير في واد، والوزارات المعنية في واد آخر.. وكان من شأن مرور سنوات طويلة علي إهمال وزارات التنفيذ لما يتوصل إليه المجلس من توصيات أن فقد البعض حماسهم، وبدأ التكرار في الموضوعات التي تتضمنها تقاريره.. وفضلاً عن ذلك فالمجالس القومية لا تقوم بدراسات ميدانية، بينما من واجب المجلس المقترح أن يفعل ذلك عن طريق اللجان النوعية التي يقوم بتحديدها وتعيينها.. كذلك فالمجلس الذي نقترحه، لابد أن تكون لقراراته صفة الإلزام، بحكم القانون.. وفضلا عن هذا فلابد للمجلس أن يكَوِّن ما يمكن تسميته »بالمرصد«، تكون وظيفته: رصد ما ينشر ويذاع ويقال، من قبل فئات وشرائح المجتمع المختلفة، بخصوص قضايا التعليم ومشكلاته، ووضع خطوطها العريضة العامة أمام الأعضاء بصفة دورية، حتي تجيء السياسات والقرارات قريبة من نبض حركة المجتمع الكلية، وليست نتاجا لخبراء واختصاصيين، ربما يكونون علي قدر عال من الكفاءة العلمية والفكرية، لكنهم قد لا تسمح لهم ظروفهم بالمتابعة المستمرة لهموم الناس ومشكلاتهم.